قبل الغزو العراقي بشهرين، دخلت إلى بيروت.. خفية.. بتأشيرة دخول على ورقة خارجية تضم أسماء ثلاثين خادماً آسيوياً، وكان اسمي من بينهم الوحيد الذي ليس هو «كومار» أو «رامو» أو «ميري» إذ كتب أمامه.. «الجنسية – كويتي»! وصول مواطن كويتي إلى مطار بيروت زمن الأحداث والحرب الأهلية مثل خبر وصول إنسان إلى سطح القمر!! بعد أقل من ثلاث دقائق على الوصول انهمر الرصاص علينا من كل ناحية، وتراكض الركاب وهم يحمون رؤوسهم بحقائبهم اليدوية نحو المدخل، رصاص لا تعرف له مصدراً، هل هو سوري أم من حركة أمل أم من حزب الله، وهم الثلاثة «مليشيات» مسلحة تسيطر على منطقة المطار.
خرجت بحماية من أحد ضباط المخابرات السورية، ومعي ضابط لبناني برتبة عقيد في الأمن الداخلي إلى سيارة «مطحبشة» من نوع «مرسيدس» صنعت في العام ألف وتسعمائة.. وخشبة، خلفنا كانت الحماية السورية المؤلفة من جيب روسي – سوري عليه ثلاثة يحملون مدافع رشاشة، والوجهة النهائية؟! إلى شقة الضابط اللبناني في منطقة «جل الديب»! بيروت – وقتها – كانت مثل أفغانستان لا كهرباء ولا ماء ولا سيارات ولا ناس تسير في الشارع.. لا تسمع إلا أصوات الكلاب التي «أستذأبت» من أكل لحم القتلى ضحايا القناصة، وأيضاً أصوات بضعة مولدات كهرباء يصل إلى أذنيك من مناطق مختلفة، رائحة القمامة المتروكة منذ شهور والإحساس بركض الفئران النرويجية «العملاقة» بين قدميك يلازمك وأنت تسير – مثلي – وسط منطقة «جل الديب»! «سوليدير».. حالياً. كانت ظلاماً وخراباً وقمامة وأصوات إطلاق رصاص! بيروت لم تكن «ست الدنيا» في تلك الليلة كانت «كابول» .. «اللي بتحكي لبناني»!! كصحافي.. كان لا بد أن أدخل إلى بيروت.. وككويتي كان ثمني كرهينة يتجاوز المليون دولار، حتى إن الضابط الاستخبارتي السوري قال لي وهو يبتسم.. «إنك أغلى من أي رهينة أمريكي أو غربي»، فكان جوابي له.. وبابتسامة أيضاً.. «شو رأيك تخطفني والفدية بالنص بيني.. وبينك»؟ التقيت خلال زيارتي هذه التي استمرت أسبوعاً بالعديد من نواب البرلمان، ذهبنا إليهم ونحن نسير على الأقدام ونحمل الأضواء التي تعمل على الغاز، بيروت كانت عارية، باكية، حزينة، مثقلة بالجثث ورائحة البارود والموت و.. القمامة!
كنت أتغدى في مطعم «الحمام العسكري» حين اشتعلت صواريخ العماد «عون» حليف «السيد حسن نصرالله» حالياً وعدو الشيعة والإسلام وسوريا وحليف صدام حسن «سابقاً» بينه وبين القوات السورية وشاهدت صواريخ «غراد» ذات المدى الذي يبلغ (70) كيلو مترًا وهي تتساقط من الطرفين في مسافة لا تزيد عن عشرة كيلومترات!! العماد «عون» في قصر «بعبدا»، والسوريون يقصفونه من.. منطقة حليفهم السابق «وليد جنبلاط» في الجبل، الآن جنبلاط «بيك» هو عدوهم الأول بعد الحريري! لبنان ليس جمهورية ولا دولة ولا مستوطنة ولا قبيلة، بل هو أشبه بثماني عشرة امرأة جميلة.. بنفس رقم عدد طوائفه تأكلهم «غيرة النسوان» وتحتار في كيفية الوقوف وتحديد دعم أي واحدة فيها!! كان لبنان للعرب لكل العرب والآن، أصبح الإيراني يعشق كل نسوان لبنان، وعندما أقول «نسوان» فأنا أقصد الطوائف والأحزاب وأمراء الحرب وليس «ريتا» «وجنيفياف» و «زينب» و«فاطمة» !! لبنان مثل طبخة الخثرة الكويتية القديمة، إنها لذيذة لكن عظام السمك.. أو الحسك بالبيروتي يجعلك تحذر حبها.. ألف مرة!!.. مرة أخرى.. بيروت ليست «ست الدنيا» بل هي.. «لمن غلب»، كما قال عمرو بن العاص عن أرض من ذهب «هي كنانة الله في أرضه مصر.. المحروسة»!!