حينما يحاول أحدنا أن يتفكر قليلا في سبب تأخرنا المستمر، رغم تزايد عدد المتعلمين والمثقفين لدينا، ورغم اطلاعنا على تجارب الآخرين وتقدمهم، ورغم عراقة تاريخنا الحافل بمبادئ تحفزنا للتفوق وبجذور فكرية تساعد على التميز، وممارسات ناجحة تستحق أن تكون مثالا يحتذى، ومع كل ذلك نجد أنفسنا في تقهقر وتراجع مستمرين، منطلقهما تفكير محدود، وضياع في التدبير، وقلة في الحرص، وحنين للروتين والرتابة والتعقيد.
فترى السياسي، وهو في خضم انتقاده للحكومة، يعزو فشلها لغياب التخطيط، وسماحها للمحسوبية والواسطة، وعدم محاربتها للفساد، ويتوعدها بالويل والثبور وعواقب الأمور، إن هو صار في موقع مؤثر مثل عضوية مجلس الأمة أو منصب سياسي مهم، وفجأة بعد أن يصبح عضوا يتقدم بتشريعات تعقد إجراءات العمل الحكومي، وأخرى تصادر الحريات، وثالثة ارتجالية لا تحمل لا فكرة ولا تحقق هدفا، وتسير بعشوائية أكثر تيها من الحكومة، وهو من هبط بالعمل البرلماني الى مستوى أدنى من الحكومة، فمن جاء ليصلح صار هو أسوأ في إغراقه بالتنظير، وقد خرج عن دائرة التنظير.
وإذا التفتنا الى المثقف، ومن نسميهم «النخبة الثقافية» من أصحاب الفكر وأساتذة الجامعة أو قادة الرأي، فيعجبنا طرح أحدهم حينما يتشدق في الإصلاح، ومحاربة الفساد، والتمسك بالمبادئ والمثل، وطروحاته غير التقليدية، وأفكاره الوطنية والتنموية، حتى يتولد لديك شعور أن أحوال البلد لن تنصلح إلا بهم وتوليهم المسؤولية فيه، وبعد فترة يتسلمون المناصب والمسؤولية في الدولة، فيصدمكم تفكيرهم النمطي في العمل التنفيذي الذي يبدأ بفكرة تعيين لون واحد ممن يتوافق معه فكريا، ويمنح المناصب للأقارب والأصحاب، ويتجه الى إقصاء الآخرين من الكفاءات لعدم اتفاقهم فكريا معه، بل ويميل لإرضاء السلطة على حساب المبادئ والمثل التي كان يتحدث بها، فيتحول الى أداة هدم لنظم الدولة ومؤسساتها، والتفريق بين الناس على أساس فئوي أو فكري أو طبقي مريض، وهو ما يعجل في انحدار الدولة، ولا يتيح فرصة للارتقاء والتقدم بها، وبعدها ندرك أن هؤلاء كان موقعهم بالتنظير أفضل من المسؤولية، لأنهم غرقوا بالروتين، وأغرقوا البلد معهم.
إن المجاملة الزائدة التي يبديها صاحب الرأي تضيع قيمة كلمة الحق تماما كما تضيع النصيحة المفيدة. كما أن التعصب الفكري وإقصاء الآخرين يسقطان أي قيمة للعلم والثقافة واستيعاب الرأي الآخر، وأيضا فإن تحول هؤلاء، وهم في موقع المسؤولية الى موظف في التفكير يقيده وقت الدوام وإجراءاته ونمط العمل ودهاليزه، يبدد الخبرة التي اكتسبها والتجارب التي زارها والتعليم في الجامعات العالمية التي تغرب لأجلها، بل تنكر لمبادئ دينه وعمق المبادئ التي في جذوره الفكرية والتراثية.
فنعود بعد ذلك لنتحسر على تخلفنا وتقهقرنا عن الدول والأمم الأخرى، ونبحث عن شخصيات جديدة للنهوض بالبلد، فلا نجد إلا شخصيات متكررة لسابقتها، لكن بمظهر جديد وهيئة مختلفة، ولكن تبقى العقلية واحدة مملوءة بالتنظير المتطور، وهي بعيدة عن المناصب، ولكنها تصبح مغرقة بضيق الأفق، بل في الروتين عند تولي المسؤولية.
فلا صلاح لأحوالنا ما لم تتبدل تلك العقليات، كما حصل لدى الأمم التي نهضت وتقدمت وصارت رائدة.