فجأة، ضجت وسائل الإعلام بخبر اكتسح البر والبحر والجو؛ “وفاة الأديب الألماني غونتر غراس”. الفضائيات تحولت إلى نائحات، ومواقع التواصل الاجتماعي تحثو التراب على رأسها حزناً، وبعض الأدباء عبروا عن شعورهم باليتم، وبكاء وعويل ونواح… كل هذا قرأته وشاهدته، دون أن أعرف من هو هذا الـ”غونتر غراس”، وأظن أن آخرين كثراً مثلي لا يعرفونه، وإن تظاهروا بمعرفته، كنوع من استعراض الثقافة.
عذري، أمام نفسي، أنني لست من العشاق الهائمين صبابة بالأدب الأوروبي، ولا من كارهيه، بالطبع. لكنني أميل إلى “أدب الشعوب الفقيرة”، كأميركا اللاتينية، وشرق آسيا، وإفريقيا.
وعندما بحثت في “غوغل” عن غونتر غراس، وجدت ما هالني، وشدني، وراق لي؛ وجدته رجلاً “يقف في المنتصف”، فهو نصف ألماني ونصف بولندي، ونصف كاثوليكي ونصف بروتستانتي، لكنه لم يكن “نصف شجاع” بل شجاعاً كاملاً، استطاع أن ينتقد إسرائيل بوضوح. والحيتان، في قيعان المحيطات، تعرف أن الأوروبي الذي ينتقد إسرائيل، سيتعرض للعواصف والبراكين، فما بالك إن كان ألمانياً. وعرفت أيضاً ما هو أهم من ذلك، عرفت أنه أحد أشهر الغاضبين على أميركا، بعد انتشار خبر تجسسها على هواتف رؤساء الدول، وخصوصاً المستشارة الألمانية ميركل، التي قال عنها صاحبنا الأديب إنها جبانة.
كل هذا الحديث عن حياته الشخصية، ومسلكه، لكن المهم جداً، هو دوره في توثيق الأحداث، وحفظ تاريخ ألمانيا، بصدق، من خلال رواياته. وهنا النقطة الرئيسية، فقد استطاع حفظ الأحداث، وأرشفتها، وعرضها في رواياته، لتطلع عليها الأجيال القادمة. تماماً كما فعل أدباء وشعراء أميركا اللاتينية؛ نيرودا وماركيز والليندي وغيرهم…
والسؤال الذي سأطرحه الآن، وأنا مطأطئ رأسي، ليس “هل لدينا أدباء وشعراء، خليجيون، ينقلون ويدونون الأحداث بصدق، أم لا؟”، بل “لماذا ليس لدينا، من الأدباء والشعراء والفنانين، من يحفظ تاريخنا وينقله إلى الأجيال القادمة بصدق؟ ولماذا تركنا تاريخنا في أيدي الحكومات، لتخلطه بالكزبرة والبقدونس، وترش عليه (الصوص) وزيت الزيتون؟”.
هل أنا بحاجة إلى القول إن التاريخ الذي تنقله إلينا حكوماتنا مزيف، وإنه تاريخ يمجّد الحكومات، ولا يمت إلى الصدق بصلة؟
صدقاً، وحزناً، أقول إننا شعوب لا تاريخ محفوظاً لها. شعوب مجهولة الجدين.