يحاول البعض تفسير تعثر دول الربيع العربي، وهي أطروحات عادة ما ترتبط بالعامل الثقافي، حيث تقدم العديد من الأسباب لذلك التعثر مثل جهل الشعوب وتدني مستويات الوعي لديهم وخلط الدين بالسياسة، وكـأنهم يوجهون رسالة تكمن في أنه لا مجال في الحصول على الحرية إلا بالخروج من حالة الجهل أولاً ثم نفكر في الحرية.
إن عملية المطالبة بالتغيير وإقامة دولة القانون والمؤسسات وضمان الحريات تتطلب قدر كبير من الوعي والفهم، ولعل الجيل الحإلى من الشباب يمتلك ذلك القدر من الفهم والوعي نتيجة امتلاكة لمختلف الأدوات المحققة لذلك من أدوات تكنولوجية ومعلوماتية واتصالية، وهو قادر أيضاً على حشد الشارع لتأييد تلك المطالب، وهذا تم بالفعل حين كون حراك سياسي واجتماعي أشعل ما يعرف بثورات الربيع العربي.
إلا أن تلك الدعوات التي تنادي بتأجيل إقامت دولة المؤسسات القائمة على النهج الديمقراطي حتى يعي ويفهم الشعب وتزداد ثقافته، يمكن الرد عليها بأن إقامة تلك المؤسسات هي كفيلة بتغيير الوعي ورفع مستويات الفهم لدى الجماهير، حيث أنه لا يمكن تصور أن النظم الحاكمة القائمة على الفردية أو القلة هي كفيلة بزرع الثقافة والوعي والفهم لدى الجماهير، فالإستبداد لا يحكم إلا الشعوب المغيبة، ولا يستمر إلا مع تغييب الوعي وتسطيح العقول وتخريب الجامعات والسيطرة على الإعلام، وقد عانت دولنا العربية من هذه الأمور لعقود طويلة.
إن المتتبع لتجارب الشعوب والأمم، يجد أن تلك التجارب لا تؤيد فرضية التأجيل حتى يرتفع وعي وفهم الجماهير حتى يحصل على حريته، حيث تشير تجارب الدول الأوروبية بأنها خاضت حروباً وصراعات دموية حتى تحصلت على حريتها بالرغم من أن تلك الدول قد عاشت عصر التنوير في كافة أقطارها، وبالرغم من ذلك استمرت الأفكار والممارسات القائمة على العنصرية والتمييز حتى القرن العشرين إلى أن تم التخلي عنها بشكل تدريجي.
لا تزال شعوب كثيرة بالعالم الثالث تعاني من مستويات متدنية من الوعي والجهل والفقر برغم أنها استطاعت بناء أنظمة حكم ديمقراطية، والحكومات الديمقراطية هناك تجتهد في بناء اقتصاديات هذه الدول، فحقق بعضها النجاح كتركيا والبرازيل والهند وغيرها، ولا يزال بعضها الآخر يحاول.
وبذلك يمكن القول بأن إرساء قواعد النظام الديمقراطي ليس نهاية الأمر، لكنها مجرد بداية تهدف في محصلتها إلى تمكين الشعوب وتغيير أساليب ممارسة السلطة، كما أن هناك الكثير من الانتقادات الموجهة للمنظومة الغربية بشأن قضايا العدالة الاجتماعية ووعي الجماهير وغيرها، وهناك من يجتهد لتعديل هذه الأوضاع وتطويرها.
كا تجدر الاشارة في هذا الصدد إلى أن لوعي وفهم الشعوب بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل خضوع المؤسسات غير المنتخبة للسيطرة المدنية، وتفعيل الأحزاب والمجتمع المدني، دور محوري في استمرار الديمقراطية وترسيخ النظام الديمقراطي بعد إقامته. وهناك دول نجحت في هذا الأمر. ككثير من دول أمريكا اللاتينية وشرق وجنوب أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان، وهناك دول لم تنجح وسقطت فيها الأنظمة الديمقراطية إما بفعل الانقلابات العسكرية أو الحروب الأهلية كما في بعض الدول الافريقية والآسيوية. ونحن في عالمنا العربي لم نصل إلى مرحلة تعزيز الديمقراطية. فبعض الدول العربية لا تزال تحاول اجتياز المسافة الفاصلة بين نظم حكم الفرد أو القلة إلى نظم الحكم الديمقراطي ولم تنجح بعد. كما أن هناك بعد آخر له علاقة بما نتحدث عنه، وهو دور النخب السياسية الحاكمة والمعارضة على حد سواء. إن الربيع العربي يعاني في الأساس من أزمة مع ثقافة النخب وليس ثقافة الشعوب.
لقد تصدرت النخب التقليدية المشهد في أكثر من بلد عربي بدلا من افساح المجال للنخب التي حركت وقادت الحراك الشعبي، وهي التي صدّرت خلافاتها التاريخية إلى الشعوب، وهي التي تصر على تحميل الشعوب كل الخطايا، وتمارس كل أنواع الوصاية عليه. وبذلك قد تبرز لدينا بعض التساؤلات بهذا الشأن أهمها؛ ألم تتحرك الشعوب من أجل الكرامة والحرية والعدالة بعد أن فشلت تلك النخب في تحقيق تلك المطالب؟ أليست هذه النخب هي المسؤولة عن الفشل في إدارة المراحل الانتقالية وفي ترجمة هذه المطالب إلى برامج عمل وسياسات حقيقية؟ ثم ألم يتصدى للشأن العام في كثير من دول الربيع العربي أشباه المتعلمين وغير المتخصصين والكثير من المنتفعين؟ ألم يسخر هؤلاء الإعلام لتشويه الثورات والثوار لصالح قوى الثورات المضادة؟
وبذلك يمكننا القول بأن الربيع العربي بكل ما يحملة من ايجابيات وسلبيات قد كشف لنا أمر غاية في الأهمية وهو أن هناك نخب سواء سياسية أو ثقافية أو اجتماعية تعشق العيش في كنف العبودية، وهي بذلك ترفض أي محاولات للعيش بالحرية. وكما قيل إنهم عبيد بلا أغلال.