يصعب، أحياناً، فهم فكر السلطة في الدولة، ففي الوقت الذي لا تتردد فيه بسحب الجناسي عن مواطنين لأنهم عبّروا عن آرائهم المخالفة لهيمنتها وسطوتها كي تضعهم في خانة “اللاهوية” واللاوجود الإنساني إلى أجل غير معلوم، وحتى يتغير مزاجها وفق الأهواء السياسية أيضاً، فإن هذه السلطة لا تتأخر في ضرب المتظاهرين المسالمين وتمنع تجمعاتهم، وكذلك يهرول مباحثها ورجال أمنها للقبض على مغرد أو كاتب رأي عبّر عن نفسه بكلمات بسيطة، وتتقطع أنفاس عسسها ركضاً لتنفيذ قرارات الحبس الاحتياطي بعنف وقسوة، مبرزة سطوتها الأمنية وقوة عضلاتها على ناشطين، تكلموا أو كتبوا في الشأن العام بغير هوى أصحاب الأمر العام.
في كل ما سبق وأكثر منه الذي يزدحم في كشكول السلطة الأمني نجد فيه سلطاتنا “عند وجهك” في سرعة قمع هذا المواطن وقهر كرامته، إلا أنها، هذه السلطة ذاتها، تشعر بالخجل وتردُّد حين يكون بعض المواطنين أنفسهم قد اخترقوا القانون، وانتهكوا أحكامه.
ليس المقصود في هذه المناسبة الحديث عن أصحاب النفوذ والسطوة الذين يحلّقون عالياً فوق سُحب القانون، وبالتالي، لا يمكن أن يطولهم الخطاب القانوني، فوضع هذه الشريحة من الطبقة العليا “جداً” في تكوين الثروات الضخمة أمرها ليس جديداً في ثقافة الفساد بالدولة، وأي محاولة للتصدي لها، تكون نتائجها معروفة سلفاً، وتصبح حكاية من حكايات مثل “كبت أمي” وغيرها من حكايات عدم وجود النص التشريعي المجرم، أو غياب الدليل اللازم للإدانة، وغيرها من قصص ألف ليلة و”نيلة” في المكتبة الكويتية العامرة.
الموضوع الآن، هو هذا الحديث القديم المخجل عن سكن العزاب الذي يقلق راحة عدد من المواطنين المجاورين لفيروسات وجراثيم العزوبية، وكيف يمكن لهذا المرض العزوبي أن يؤثر في الصحة الأخلاقية للعائلات التي تقطن في امبراطورية العوائل الرصينة.
تابعت أدبيات “فيروس العزاب” في وسائل إعلامنا، فلم أفهم المقصود من العزاب، فكلمة عازب، تعني غير المتزوج، وهي تشمل المواطن وغير المواطن، وإذا كان المواطن الأعزب في وضع لا يحسد عليه في عالم العزل الاجتماعي في الأماكن العامة بدولة المحظورات، إلا أن المقصود بالعزاب الآن، هم العمال البؤساء من غير الكويتيين، سواء كانوا من الحرفيين أو عمالة غير فنية رخيصة التكلفة تقوم بأعمال لا يقوم بها ابن البلد في ممالك بني نفط، فبسبب دخولهم المتدنية بصفة عامة، وعدم قدرتهم على جلب عوائلهم يتشاركون في المعيشة بغرف مزرية، هي “علب سردين” بشرية، تخلو من أبسط وسائل الراحة والكرامة البشرية، لكنهم، من أجل لقمة العيش لا خيار آخر لهم، فحالهم في دولهم المصدرة لا يقل بؤساً، رضوا بالهمّ في النهاية، لكن لا المواطن رضي بهم وبجوارهم، ولا السلطة عرفت كيف تحل قضية هذا المواطن العائلي غير القابل لهم.
تعرفون لماذا؟! لأن هناك مواطناً آخر يسترزق من شقاء هؤلاء العزاب، يستغل بؤسهم وحاجاتهم ليؤجر لهم علبة من علب السردين السكني الذي يملكه، وأضحت السلطة الآن في محنة من تُرضي ومن تغضب.
فهي أصدرت تشريعاً منذ عام 92 تحرّم فيه سكن العزاب في السكن الخاص “النموذجي”، لكن هذا القانون حاله من حال معظم قوانين الدولة، مثل قانون المرور والتدخين في الأماكن المغلقة، وغيرها من القوانين غير الأمنية بقاموس الأمن السلطوي… ليس له نصيب من التفعيل.
القانون لا يعمل، هو بحالة شلل دائمة، لأن هناك مصلحة للمواطن الآخر المؤجر لسكن العزاب كي يشبع نهمه وجشعه في ريع العقار المؤجر لعطالة القانون، ولأن معظم المؤسسات التجارية كشركات المقاولات لم توفر سكناً لعمالها، وطبيعي أن تجار الإقامات، هم أيضاً مواطنون من صنف الملّاك المؤجرين المستغلين ليس من شأنهم توفير السكن لبكتيريا العزاب الأجانب. والدولة برمّتها لم توفر أراضي للعمال الأجانب، هي عاجزة، أساساً عن توفيرها للشباب المواطنين، فماذا عن “البروليتاريا” التي تعمل للمواطنين؟! وأضحت عبارات التهديد التي تطلقها البلدية – وهي بالمناسبة فسادها ما تشيله البعارين، كما ندوّن في مأثوراتنا التراثية – لهؤلاء الملّاك بلا معنى. وأصبح مشروع العقوبة موجّهاً للمستأجر العامل البائس الذي يطالب مستشار البلدية القانوني بإبعاده، ولا أعلم إلى أين يريد إبعاده.
فالمواطن الذي كان ضحية قانون السلطة، كما ذكرت في أول المقال، يصبح الآن فوق قانون السلطة وفوق العدالة، هل نتصور أن ذلك المواطن الضحية للسلطة هو ذاته المواطن الجشع المستغل للسلطة؟!
هما يشتركان في المواطنة الكويتية، ولكنهما لا يشتركان في الخضوع للحكم القانوني، وهذه مأساة هذه الدولة ومؤسساتها العاطلة، وهي – بالتالي – مأساة مبدأ العدالة والمساواة أمام القانون.