وصل الصراع بين الغرب والشرق الى مرحلة متقدمة من الاحتقان والعنف. فبين الحضارتين خلافات يعكسها الواقع الراهن حول القضايا المختلفة. الصراع القائم انعكاس لعلاقات الضعف والقوة بين الشرق والغرب وحول فلسطين وإسرائيل واحتلالها، لكنه صراع يعكس تاريخ التدخلات العسكرية الغربية وحاضرها، وحجم الانهيار والديكتاتورية في الإقليم العربي والإسلامي. هذا كله يفتح الباب لمزيد من النزاعات التي ستؤدي الى خسائر تصيب كل الأطراف. هناك أقلية في الغرب تتفهم الأوضاع على حقيقتها، وبيننا نحن العرب أقلية تفهم الغرب بموضوعية، لكن الأغلبيات تعيش نزاعاً حضارياً ملؤه الشكوك والمخاوف المتبادلة.
في الأجواء العامة في الغرب، بخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، اليوم، حركات عنصرية وموجة من العداء للإسلام، تستند في أرضيتها الى العنف ضد أهداف مدنية غربية. أهم أبعاد هذه النظرة التبسيطية، التعميم بأن كل المسلمين متعاطفون مع العنف الذي ضرب المدنيين في فرنسا وبلجيكا وأماكن أخرى.
لكن ما ينقص العنصرية في أوروبا والولايات المتحدة، معرفة كيف تطوّر العنف في الإقليم العربي وكيف انتشر في اتجاه أوروبا والغرب. العنف الجهادي لا يمكن عزله عن تقسيم العمل العالمي بين منتجين في الغرب ومستهلكين في الشرق، بين بيع الغرب السلاح في الإقليم ودعمه إسرائيل وغضّه النظر عن كل الانتهاكات للحقوق، كما لا يمكن عزله عن التدخل العسكري الغربي ونتائجه على العراق ودول أخرى.
في المشهد تناقضات كثيرة. «حماس» فصيل مسلح في مواجهة حصار واحتلال، لكن السياسة الغربية، بخاصة الأميركية الأوروبية، تركز على عنف «حماس» مع غض النظر عن الاحتلال والحصار وعنف إسرائيل وتاريخ القضية الفلسطينية التي أوصلتنا الى هذا الوضع. هناك سلطة فلسطينية في الضفة الغربية، لكن الغرب لم يبذل الجهد المطلوب لمنع إسرائيل من تدمير مكونات حل الدولتين من خلال الاستيطان والتهويد. المنطق ذاته ينطبق على سورية حيث تكبر الكارثة، ومع ذلك يترك الغرب الحرب تستمر بلا حدود. حتى عندما سعى الرئيس جورج بوش الابن الى إعادة صياغة الشرق الأوسط، لنرَ ماذا فعل: ساهم في مأزق للولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان واليمن. وانتهى الأمر بقتل مئات الألوف من العراقيين بفضل غزو العراق أولاً ثم سوء إدارة ذلك الغزو في السنوات التي أعقبته.
إن اختزال المسلمين في مدرسة العنف تعميم لا يقف أمام التمحيص. فالمسلمون والعرب هم في الوقت نفسه ضحايا العنف، العنف في بلادهم وفي مدنهم وقراهم، عنف الأنظمة وعنف التعذيب وعنف مصادرة الحقوق وعنف الإرهاب. وهذا يقودنا الى أهمية رؤية أن الدائرة الحضارية الإسلامية ليست واحدة تماماً، كما أن الغرب ليس واحداً موحداً. ففي العالم العربي حراك عربي يحمل أبعاداً سلمية كما تجلّى في بدايات الربيع العربي، وكما يبرز بين الحين والآخر في حركات سياسية وجماهيرية كما حصل في لبنان والعراق في ٢٠١٥. كما أن العرب والمسلمين يختلفون بين مدارس ليبرالية وعلمانية وإسلامية معتدلة ومتزنة وأخرى متطرفة، بل توجد بينهم خلافات بين طبقات وفئات. منطقتنا متنوّعة، فيها أنظمة مختلفة، ثقافات عديدة، ديانات متنوعة، وهي تمر بمرحلة حساسة من تاريخها.
في المقابل، إن التعميم الشائع في بلادنا العربية بأن الغرب مادي بلا روح ومنحلّ إنسانياً وأخلاقياً لا يقف أمام كل تمحيص، وذلك لأن المادية والانحلال لا يمكنهما أن يبنيا الحضارة. الواضح أن الغرب امتلك أسباب القوة والدقة واحترام الوقت والقدرة على التخطيط القائمة على العلم وبناء المؤسسات وممارسة حريات وحقوق سياسية ثابتة. ما مر به الغرب منذ عقود، بخاصة في القرنين الثامن والتاسع عشر، يشبه ما يمر به العالم العربي من فوضى وعنف، لكن الغرب اكتشف في النهاية توازنات السياسة وضرورات التداول على السلطة بوسائل سلمية، كما اكتشف أهمية الاعتراف لمواطنيه بحق التجمع والتنظيم والإضراب والتعبير والمساواة بصفتها حقوقاً طبيعية في مواجهة مركزية السلطة وتعسّفها. هذه دروس نشأت بعمق أكبر بعد بروز هتلر وموسيليني.
ثنائية الغرب والشرق مضرّة لنمو الشرق عندما تمس العلاقة مع كتل شعبية كبرى في الغرب. علينا أن نتذكر أن التراث الغربي في جانب منه، تراث لنا، وأن مسيرة العلم والتنمية لم تعرف التمييز بين الشرق أو الغرب أو الصين والهند، بل إن أفضل من كتب في الغرب في نقد الغرب وسياساته كتب بلغات الغرب كفوكو وتشومسكي وسعيد ومبمبي وعشرات غيرهم. في المقابل، بعض شعراء الإسلام كالشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، هم الأكثر مبيعاً في الغرب. ففي الغرب من يسعى الى معرفة الحقيقة، وفي الغرب من يريد أن يفهم. لهذا فجعل الصراع مفتوحاً وعنيفاً مع كتل شعبية من مواطني الدول الغربية، يعني دفع تلك الكتل الى موقف نهائي يميل الى العنصرية والصهيونية ضد العالم العربي والإسلامي. بين أن ندرك طبيعة ما يقع ونفهمه ضمن موازين الصراع والظلم والعدالة، وبين أن نحدد بوصلة واضحة لكسب الأصدقاء وعزل العنصرية، خيط رفيع يفصل عوالم متناقضة.
لنتساءل كيف نجح مانديلا في تحويل ثقافته الإنسانية الى ثقافة عالمية كرمز للحقوق وللانفتاح بين الأبيض والأسود. لم يقع هذا قبل أن تمر جنوب أفريقيا بالأسوأ في مجال العنف. يبدو أن الطريق لا يزال يمر من فوهة المصاعب والدمار، وذلك قبل أن نكتشف طريقاً ثالثاً أكثر توازناً وحرصاً على الإنسان وكرامته.