شغلت السلطة السياسية التي تنتج عن تبوأ أفراد لمواقع ومناصب سياسية جميع المجتمعات عبر تاريخها، فالسلطة ضرورة، لكن هناك في التاريخ أمثلة عن القيصر الذي استخدم قوته ونفوذه لحرق مدينته وأمثلة متتالية من القرن العشرين والواحد والعشرين عن الزعماء والقادة من الغرب والشرق ممن دمروا بلادهم.. في السلطة أمثلة كثيرة عن استخدام لها يتميز بالحكمة، كما هو حال مانديلا مقاوم العنصرية ورئيس جنوب إفريقيا فيما بعد، وهافل الذي قاوم الشمولية في تشيكوسلوفاكيا وأصبح رئيساً، وغاندي الثائر في الهند وصانع استقلالها، لكن هؤلاء كانوا أيضاً معارضين لأنظمتهم ولهذا دفعوا ثمناً كبيراً في مقاومة السلطة قبل أن يتعاملوا معها بحكمة وروية وعدالة.
فالتقدم لم يقع في العالم إلا عندما برز من القادة من يسخر السلطة السياسية بالأساس لصالح الطبيعة الإنسانية التي تمكن الآخرين وتحسن ظروف حياتهم وحقوقهم الأساسية.
في التعامل مع السلطة وفهمها مدرستان، الأولى تؤمن بضرورة التركيز على أبعادها الإنسانية وقيمها الممكنة فتكون بهذا خادمة لسنن التغير والعدالة بين الناس، وتقابلها مدرسة أخرى تؤمن بأسلوب ميكيافيللي الهرمي الهادف للحد من تمكين الأفراد والمجتمعات والساعي لإبقائها ضعيفة مفككة لأطول مدة ممكنة.. الأسلوب الميكيافيللي هدفه إبقاء السلطة في يد فئة محددة لأطول مدة ممكنة، وهو غير خاضع لرقابة أو محاسبة، دون أدنى التفات لنتائج ذلك على الاستقرار البعيد الأمد والمجتمع والبلاد.. مثلاً سلطة القذافي مقابل سلطة مانديلا.
من شاهد فيلم العراب بأجزائه الثلاثة بإمكانه أن يلحظ كيف تحول(ال باشينو) ابن العراب المسالم الطيب بعد وفاة أبيه اغتيالا.. لقد وقع التحول عندما بايعته العائلة بصفته قائداً جديداً لها وهذا أحدث كل الفارق.. لم يكن الابن يريد أن يصبح كأبيه زعيماً لعصابة دموية.. لكنه في المقابل تغير بسرعة ليتوافق مع مواصفات السلطة والموقع وفق التصور الميكيافيللي الهرمي.. وفي نهاية فيلم العراب ينتهي ال باشينو وحيداً بعد مقتل ابنته ضمن سلسلة الانتقام بينه وبين عائلات أخرى. انتهى العراب محطماً محتاراً في معنى النصر والقوة والجبروت.
في تاريخ صعود الأفراد للسلطة عناصر كثيرة.. لكن العنصر الأهم هو دعم الآخرين لمن يصعد للسلطة، وهذا مرتبط أساساً بصفات تجمع عليها الناس كالقدرة على التوفيق بين المختلفين والحرص على حاجاتهم وحقوقهم والأمانة والتعاون والعمل الجماعي وموهبة صنع القرار الحكيم. فوفق داكر كيلتنر في كتابه THE POWER PARADOX شرح قيم وعميق. فعندما يصل فرد إلى السلطة تبدأ رحلة هبوطه عندما يتخلى عن الصفات التي أوصلته بالأساس وقربت الناس منه. فهو يبدأ بخسارة مكاسب الصعود بمجرد ابتعاده عن نكران الذات والاهتمام بالناس وحقوقهم وقضاياهم.. وهذا يتزامن مع تصاعد شعوره بالعليائية بسبب القوة الممنوحة له، وهنا بالتحديد يبدأ بالاستفراد.. هكذا يبرز التناقض، فقد يمتلك ذات الشخص الكثير من من النفوذ والتأثير عندما كان خارج السلطة أو في الطريق إليها بسبب دعم ومحبة الآخرين له، ولكنه يخسر كل النفوذ والتأثير عندما يفتقد دعم وتعاطف الناس معه، مما يضطره لاستخدام القوة في إسكات النقاد وإيقاف سيل المعارضين.. هنا يقع الفارق بين سلطة ديمقراطية متواضعه في التعامل مع نقادها وسلطة تحتقر شعبها وتتعامل معه بصفته المنافس وفي حالات العدو على المدى القريب والبعيد.
صدق اللورد أكتون عندما قال: «السلطة مفسدة»، وذلك لأنها بطبيعتها تغير الأفراد من حالة التواضع لحالة التكبر ومن المحبة للآخرين للأنانية ومن الاستماع إلى عدم الاستماع، السلطة تعزل صاحبها في برج محصن.. لهذا السبب يجب تثقيف مع يتبوأ السلطة بمبادئ كثيرة تسهم في حفاظه على القيم الأساسية التي أوصلته للسلطة في البداية.. لقد نشأت الديمقراطية في العالم بصفتها طريقة في التعامل مع قصور البشر، وذلك من خلال مراقبتها لأدوارهم في السلطة وفصل السلطات وتثبيت ممد زمنية مدروسة.. ليست الديمقراطية آخر مطاف التطور السياسي، وهي قاصرة في جوانب كثيرة، لكنها طريقة متقدمة في التعامل مع مشكلة السلطة الأزلية.