تواجه مصر في الوقت الحالي خليطا من الأوجاع الاقتصادية من تضخم وبطالة مرتفعين وتراجع في النمو وخروج لرؤوس أموال، وضعف في القدرة على جذب الاستثمارات وضعف كبير في تنافسيتها ينعكس في فجوة كبيرة في ميزان مدفوعاتها وتراجع في قيمة عملتها… إلخ. لمواجهة هذه الآلام ذهبت مصر للطبيب الخطأ صاحب الوصفة الخطأ.
فمنذ أيام أعلنت مصر بالتزامن مع صندوق النقد الدولي عن خلاصة الاجتماعات المبدئية التي قام بها الصندوق والجانب المصري، التي على أساسها تم الإعلان عن التوصل لاتفاق مبدئي مع الصندوق بمقتضاه سيقدم الصندوق قرضا لمصر بنحو 8.6 مليار وحدة حقوق سحب خاصة أو ما يعادل 12 مليار دولار أمريكي، بما يعادل 422 في المائة من حصة مصر في رأسمال الصندوق، وذلك للمساعدة في تسهيل برنامج الإصلاح الاقتصادي في الأجل المتوسط الذي ستطبقه مصر.
القرض الذي ستحصل عليه مصر يندرج تحت قائمة تسهيلات الصندوق الممتدة Extended Fund Facilities، التي تستهدف تدعيم برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي ستطبقه مصر عبر السنوات الثلاث القادمة، الذي يؤكد الصندوق على أهمية سرعة البدء في تطبيقه.
برنامج الإصلاح المقترح يستهدف تحسين كفاءة سوق النقد الأجنبي في مصر لإحداث قدر أفضل من التوازن فيه، وخفض عجز الميزانية العامة للدولة للسيطرة على النمو في الدين العام وتحسين نسبته إلى الناتج، ورفع معدلات النمو الاقتصادي وتعزيز قدرة الاقتصاد المصري على فتح المزيد من فرص العمل، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية محدودي الدخل، فضلا عن بعض الإصلاحات الهيكلية الأخرى.
بالتدقيق في مكونات البرنامج ومستهدفاته نجد تناقضا واضحا بين أدوات الإصلاح فيه وتعارض بعضها البعض فضلا عن صعوبة أن تؤدي أدوات الإصلاح إلى تحقيق الأهداف الأساسية منها في غضون المدى الزمني المقترح.
أولا: وفقا للبرنامج تستهدف السياسة النقدية رفع كفاءة أداء سوق النقد الأجنبي وزيادة الاحتياطيات منه، والسيطرة على التضخم وخفض معدله من رقمين إلى رقم واحد، وذلك من خلال التحول نحو نظام مرن لسعر الصرف يؤدي إلى تعزيز القدرات التنافسية للاقتصاد المصري، بزيادة الصادرات وتعزيز الإنفاق السياحي وجذب الاستثمار الأجنبي، الأمر الذي يتوقع معه الصندوق أن يدعم النمو ويفتح المزيد من فرص العمل. وهي مستهدفات كما نرى متناقضة، وتكون صحيحة فقط على الورق، أما على أرض الواقع فهي مجرد خليط من السياسات المتعارضة التي لا تحقق الأهداف المتوقعة منها. ذلك أن تحرير سعر صرف الجنيه، وهو في رأيي أخطر السياسات المقترحة، لا بد أن ينتهي بخفض قيمة الجنيه، ولكي يحقق الخفض أهدافه لا بد من توافر شرط أساس مرتبط بارتفاع مرونتي الطلب والعرض السعرية لكل من الصادرات والواردات، وهو افتراض هناك ما يؤيده في ظل تركيبة الصادرات المصرية الحالية وهيكل الإنتاج الحالي والقيود على العرض منه، فضلا عن ارتفاع درجة الاعتماد على الخارج. معنى ذلك أن خفض الجنيه لن يحسن وضع الميزان التجاري، بل على العكس سيزيد الفجوة فيه، ومن ثم تحقيق عجز أكبر، وفجوة نقد أجنبي أوسع، ودينا خارجيا أعلى.
من المعلوم أن تخفيض قيمة العملة هو إجراء تضخمي، خصوصا في ظل ارتفاع نسبة الواردات إلى الناتج، وهو ما يتعارض مع هدف السيطرة على معدل التضخم وجذبه إلى نطاق الرقم الواحد. أكثر من ذلك فإن تحرير العملة ليس هو العامل الحاسم في جذب الاستثمار الأجنبي، حيث تتعدد العوامل الحرجة المؤثرة في تدفقات الاستثمار الأجنبي مثل الاستقرار الأمني وسلامة بيئة الأعمال والهياكل التشريعية المحفزة وغياب الفساد وغيرها وربما يأتي تحرير قيمة العملة في ذيل تلك القائمة.
ثانيا: إن إصلاح الوضع المالي للدولة يستهدف أساسا السيطرة على عجز الميزانية ومن ثم مسار الدين العام. ويتوقع الصندوق أن تتراجع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 98 في المائة، إلى 88 في المائة في غضون ثلاث سنوات. من وجهة نظري، فإن تحقيق هذه الهدف في غضون هذه الفترة القصيرة شبه مستحيل. فانخفاض نسبة الدين إلى الناتج على هذا النحو يقتضي إما تراجعا حادا في حجم الدين، وهو أمر مستبعد بالنظر إلى استمرار العجز المالي حتى في ظل برنامج الإصلاح، أو أن يحقق الاقتصاد معدل نمو جوهريا على النحو الذي يسهم في خفض نسبة الدين إلى الناتج إلى هذا المستوى المستهدف، وهو أمر أراه أيضا مستبعد التحقيق، ذلك أن إصلاح الوضع المالي للدولة لن يتم دون اتخاذ عديد من الإجراءات التقشفية المرتبطة بالسيطرة على الإنفاق العام من جانب وزيادة إيرادات الدولة من جانب آخر على النحو الذي يسهم بالتأثير سلبا في الإنفاق، ومن ثم تراجع معدلات النمو. وبالتالي فإن الإصلاح المالي ورفع معدل النمو المنصوص عليها في برنامج الإصلاح هدفان متعارضان، فالسيطرة على نمو الدين العام يتعارض مع هدف دعم النمو.
ثالثا: بالنسبة لإجراءات الإصلاح المالي الأخرى التي تستهدف زيادة الإيرادات العامة من مصادرها المختلفة بصفة خاصة الضرائب، حيث ستطبق الحكومة ضريبة القيمة المضافة لتحل محل ضريبة المبيعات الحالية، وهي ضريبة أكثر كثافة وحصيلة من ضريبة المبيعات، وخفض الدعم الذي بدأته مصر بإعادة تسعير الكهرباء وكذلك يفترض إعادة تسعير الوقود، وهي إجراءات ما زلنا في انتظار تأثيراتها في ارتفاع معدل التضخم في مصر.
رابعا: وفقا للبرنامج من المتوقع تحقيق بعض الوفورات المالية من خلال إعادة أولويات تخصيص الإنفاق التي ستستخدم في رفع درجة الحماية الاجتماعية، وذلك من خلال زيادة التحويلات الاجتماعية لدعم الغذاء وزيادة التحويلات النقدية الموجهة نحو المستحقين من فئات المجتمع الأقل دخلا، ودعم بعض السلع، فضلا عن زيادة الإنفاق على التدريب المهني للشباب وزيادة الاستثمار في البنى التحتية، وخلاصة ذلك أن ترشيد الإنفاق سيقابله ارتفاعه في مجالات أخرى، فكيف ستتم السيطرة على نمو الدين؟
وأخيرا فإن الإصلاحات الهيكلية الأخرى التي تستهدف تحسين مناخ الأعمال وتعميق سوق العمل وتبسيط اللوائح وتشجيع القطاع الخاص من خلال إيجاد بيئة أعمال تنافسية وتحسين مستوى الحوكمة وتعزيز المساءلة، وهي جميعها إجراءات مهمة، لكن انتشار الفساد كفيل بإجهاضها. باختصار، روشتة الصندوق لمصر أبعد عن أن تكون برنامجا متكاملا لإصلاح الوضع الاقتصادي في الأجل المتوسط، وأنها مجرد خليط غير متجانس من سمك لبن تمر هندي.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟