من المفترض وفقا لسياسات النمو الاقتصادي الجديدة في الصين أن تتحول من اقتصاد ينمو بسبب النمو في الاستثمار، حيث يقود قطاع التصنيع والبنى التحتية النشاط الاقتصادي، إلى اقتصاد ينبع النمو فيه أساسا من الإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي تحول الصين إلى اقتصاد يتجه نحو الداخل في نموه.
بناء على هذا التوجه كان من المتوقع أن تتراجع معدلات النمو، وأن ينخفض الإنفاق الاستثماري في الصين. غير أن نتائج النمو الأخيرة، التي أظهرت تحقيق الصين نموا بمعدل 6.7 في المائة جاءت لتتناقض أساسا مع هذا الهدف. فمن الواضح أن هذا المعدل أعلى مما كان متوقعا في ظل سياسات النمو الجديدة. من جانب آخر فإن مسارات الإنفاق الاستثماري الخاص والحكومي الأخيرة توضح أن سياسات النمو ما زالت كما هي، وأن هذا المعدل المرتفع للنمو يتحقق أساسا من خلال زيادة هائلة في حجم الديون سواء العامة أو الخاصة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة نموا سريعا في الدين الصيني على نحو أصبح مثار قلق ليس فقط في الصين، وإنما في العالم أجمع. ففي عام 2007 قدر الدين الصيني (العام والخاص) بنحو 150 في المائة من الناتج. اليوم يقدر بنك التسويات الدولية نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنحو 250 في المائة، وهو ما يكشف عن نمو سريع جدا.
الدين الحكومي في الصين لا يمثل مشكلة كبيرة، فمن حيث نسبته إلى الناتج يعد محدودا، كما أن نسبة العجز المالي إلى الناتج ما زالت في الحدود الآمنة. المشكلة في الديون التي تتراكم على حكومات الأقاليم والمحليات، التي تمثل نسبا جوهرية، نظرا لأن نحو 80 في المائة من الإنفاق العام الصيني يتم أساسا على مستوى المحليات. وبما أن هناك قيودا موضوعة حول السقف الأعلى للدين الذي يمكن للمحليات أن تقترضه، فإنها غالبا ما تلجأ إلى تجاوز سقف الدين من خلال الاقتراض خارج القوائم المالية سواء بصورة مباشرة أو بصورة أخرى، وكذلك إنشاء مؤسسات تمتلكها الحكومة لإنشاء المشاريع نيابة عنها، وهذه الأخيرة أخذت ديونها في التزايد على نحو كبير.
وعلى الرغم من أن الدين الصيني يصنف بين عام وخاص، إلا أن هذا الفصل قد لا يبدو دقيقا، ذلك أن الدين الخاص يعود دائما إلى الشركات المملوكة للدولة، وبالنظر إلى حقيقة أن الحكومة الصينية دائما ما تقف خلف المؤسسات المملوكة لها، خصوصا تلك التي تقوم بالمشاريع الاستراتيجية في الاقتصاد الصيني. وبالتالي فإن ديون الشركات تدخل أيضا ضمن دائرة الدين العام باعتبارها ديونا مضمونة من الدولة. بدليل أنه على الرغم من حالات التوقف عن خدمة الديون بواسطة عديد من الشركات المملوكة للدولة، إلا أن الحكومة الصينية لم تسمح لأي من هذه الشركات الكبرى بأن تسقط.
إن إحدى المشكلات المهمة التي تواجهها الصين في الوقت الحالي هي أن الشركات التي تفشل في خدمة ديونها لا تجد وسيلة تمكنها من تسوية ديونها، وقد دفع تصاعد الضغوط الخاصة بخدمة الديون الحكومة إلى اتخاذ بعض الإجراءات غير التقليدية للتعامل مع الأزمة. على سبيل المثال فقد سمحت الحكومة للشركات المدينة التي تواجه صعوبات في خدمة ديونها بإخفاء هذه الديون خارج قوائمها المالية، كما أنها سمحت للشركات المدينة بأن تتحول إلى مصارف أو أن تمتلك مصارف، وبالتالي يمكنها أن تحول ديونها بصورة ما إلى القوائم المالية لهذه المصارف، وكذلك الحصول على مزيد من الائتمان من هذه المصارف لتفادي التعرض للإفلاس.
على سبيل المثال وفقا لـ “وول ستريت جورنال”، فإن شركة ساني للصناعات الثقيلة تملكت مصرفا للتعامل مع ديونها، وهناك شركات في قطاعات أخرى مثل الدخان والسياحة تملكت مصارف أو قامت بإنشاء مصارف جديدة للغرض نفسه. كذلك فإنه في العام الماضي قامت لجنة التنظيم والرقابة على الأعمال المصرفية في الصين بمنح خمس رخص لمصارف خاصة، وتسلَّمت 12 طلبا جديدا للغرض ذاته، وكانت الشركات الصناعية هي التي تقدمت بهذه الطلبات، ومن بين هذه المصارف بنك فوجيان هاوتنج الذي أنشئ بواسطة عشر شركات في مجالات التجزئة والتصنيع والعقارات.
المشكلة الثانية هي أن النظام يواجه مشكلات في دفع مزيد من الديون في الاقتصاد بهدف دفع عجلة النشاط الاقتصادي والحفاظ على معدلات النمو مرتفعة، حتى لا يتوقف النمو بصورة كاملة. فنمو الديون أصبح إحدى الوسائل التي تواجه بها الصين الاتجاه الحالي لضعف النمو، ووفقا لبعض التقارير فإن الديون في الصين لا بد أن ترتفع بنحو 12 في المائة في مقابل كل 1 في المائة زيادة في نمو الناتج.
من جانب آخر تواجه الصين منذ أكثر من عقدين تراجعا في مستويات سرعة تداول النقود، أحد المقاييس التي تعبر عن كيفية تداول النقود من يد إلى أخرى داخل الاقتصاد. بالطبع عندما تتراجع سرعة تداول النقود فإن ذلك يعني أن الاقتصاد قد تشبع نتيجة الائتمان غير الاقتصادي، ولمواجهة تأثير تراجع سرعة التداول في النشاط الاقتصادي فإن الأمر يتطلب زيادة العرض من النقود لتشجيع النمو والحفاظ على مستويات النشاط الاقتصادي، الأمر الذي يرفع الحاجة إلى مزيد من الائتمان.
منذ عدة أسابيع حذر صندوق النقد الدولي الصين من خطورة الآثار التي يمكن أن تترتب على انطلاق أزمة مالية أوسع في الصين إذا فشلت الحكومة في التعامل الصحيح مع مشكلة ديون الشركات. ووفقا للصندوق فإن ديون الشركات ستظل مشكلة خطيرة ومستمرة، ويجب أن يتم التعامل معها بصورة مباشرة من خلال الالتزام بالإصلاحات الهيكلية الجادة.
وعلى ذلك فإن الخطورة الأساسية في استمرار الأوضاع الحالية هي أن انطلاق أزمة ديون للشركات سيحدث أزمة مالية كبيرة في الصين، لن يقتصر أثرها على الصين وحدها، وإنما سيمتد أثرها إلى باقي جوانب الاقتصاد العالمي، ولعل خير مثال على ذلك ما حدث من اهتزاز في الاقتصاد العالمي نتيجة تدهور أوضاع القطاع المالي في العام الماضي.
الخلاصة هي أن الوضع الحالي للديون في الصين ربما يقتضي حلا واحدا، وهو وقف الإقراض الجديد، ولكن ذلك لن يكون دون تكلفة فادحة، وهي تراجع النمو، الذي يعتمد أساسا حاليا على نمو الدين، وهو أحد أكثر الأوضاع تعقيدا.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟