كان لافتاً للنظر، أثناء محاولة الانقلاب في تركيا، ارتفاع أصوات مآذن المساجد بالتكبير كنوع من الدعم للشعب، الذي هرع إلى الشوارع والمرافق العامة لصد محاولة انقلاب الجيش – ذي النزعة العلمانية المتطرفة – على خياره ونظامه الديموقراطيين، فاختلط أزيز الدبابات وأصوات الطلقات النارية بهتافات الشعب وتكبيرات المآذن في مشهد مثير يدعو إلى التأمل، وكأنه يجسّد قول نزار: وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ..
هذا المشهد قد يثير في الأذهان السؤال الجدلي عن علاقة الدين بالدولة، فقد يُفسر ذلك الحدث بأنه نوع من إقحام الدين في السياسة، أو توظيفه في الخصومات السياسية، وغيرها من تُهم مكررة يتم استعمالها عند أي نقطة تماس بين الدين والسياسة من طرف العلمانيين العرب الذين تمسكوا بأكثر التفسيرات تشدداً لمفهوم العلمانية، وهو الذي يتسم بالعداء الواضح للمؤسسات الدينية، ويقضي بإقصاء الدين بجميع مظاهره وشرائعه وشعائره وثقافته من الحياة العامة، ليتم حصره في دوائر ضيقة لا تتعدى دور العبادة، والعلمانية بهذا التفسير غير موجودة حتى في الكثير من التجارب الغربية الديموقراطية. فعلى سبيل المثال، استلهم مارتن لوثر كينغ (مؤسس حركة الحقوق المدنية والديموقراطية في أميركا) رؤيته مما يعتبره «الإرث المقدس لأمتنا، وإرادة الله الأبدية» وفي ذلك إشارة إلى أن كثيراً من العلمانيات الغربية تحمل قدراً من التصالح مع الدين أكثر مما يحمله بعض علمانيي العرب!
لم يعد مفهوم العلمانية عند كثير من العلمانيين يقتصر على رفض استغلال الدين في المصالح السياسية، بل تحول إلى حالة من العداء والاستعداء والضيق من أي طرح يحمل صبغة دينية، أو أي حضور لخطاب ديني في أي شأن من شؤون الحياة العامة. والعلمانية بهذا المفهوم تسيء إلى أصحابها الذين في الغالب سينتظرهم مصير «دون كيشوت» في حربه مع طواحين الهواء! كما تظهر بشكل أيدولوجية صلبة تتجاهل معطيات التاريخ والواقع والدين، إذ من المستحيل إقصاء الدين أو تجاهله من حياة أمة يشكّل العنصر الديني الجزء الأكبر من تكوينها وحياتها ووجدانها على مدى 14 قرناً، وهو العنصر الأول في صناعة تاريخها ومجدها.
نعود إلى مشهد المآذن في تركيا، لنأخذ منه صورة تجمع بين الواقعية والعفوية لدور المؤسسة الدينية في الحياة العامة، وهي تصطف مع بقية مؤسسات الدولة، وتقف وراء الشعب وتسانده في حماية إرادته من الاختطاف، كما كان دور المسجد أيام الغزو العراقي للكويت، حيث كان يشكّل مركزاً لاجتماع الناس وتدارس أمورهم وتنظيم شؤونهم.