يقولون -في الأمثال الدارجة عند العرب والعاربة والمستعربة – إن «النسيان نعمة»! فهل هذا صحيح؟! باختصار شديد نقول: «نعم النسيان نعمة» إذ لك أن تتخيل لو أن الأحداث المؤلمة التي تمر بحياتنا منذ عهد الصبا إلى الشيخوخة لاننسى بعض آلامها وتظل تلازمنا بنفس قوة بداياتها، فكيف سيكون شكل الحياة وقسوة أيامها؟!! المشكلة أن الناس -عادة- ما ينسون أو يتناسون أحداثًا هامة وصادمة ويتذكرون أمورًا أصغر من جناح بعوضة لأسباب مجهولة لايعرفها إنسان، ولم يصل اليها العلم بعد في دراساته لكشف خبايا أدمغة البشر! تريدون دليلا على ما أقول؟ خذوا عندكم هذه الحكاية الحقيقية التي وقعت أحداثها في إحدى القرى النائية والصغيرة في فلسطين أيام الانتداب البريطاني عليها، وقبل قيام دولة إسرائيل، والتي رواها لي عجوز فلسطيني كان يعمل في وزارة الصحة الكويتية منذ الخمسينات من القرن الماضي حتى وافاه الأجل قبل سنوات قليلة! في قرية صغيرة ضمن مدينة «نابلس» اعتاد بعض رجالاتها الجلوس في ديوان المختار للحديث في شؤون وشجون قريتهم وأهلها، ويتخلل ذلك بعض المزاح وإلقاء النكات والتندر على فلان وفلان، سواء من السياسيين العرب أو الإنجليز، وكان من ضمن الحضور صاحب فرن يدعى «أبوصالح» في الثلاثينات من عمره، لايقرأ ولايكتب، لكنه يحب مجالسة الكبار، عله يسمع جملة تنفعه أو كلمة تفيده!! ذات يوم، كان «أبوصالح» جالسًا في ديوان المختار مع الكبار كعادته، ألقى أحدهم نكتة فضحك عليها الجميع، إلا أن ضحك «أبوصالح» كان مضاعفًا ومبالغًا فيه فلم يشعر إلا وقد «تبول في ثيابه»، وحين لاحظ الجالس بقربه ذلك، فضحه وهو يضحك- وصار يصرخ ويقول للحاضرين: «أبوصالح بال على حاله»!! وخرج المسكين، وهو يركض خجلا من ديوان المختار، وما هي إلا سويعات حتى كانت كل القرية تضحك – رجالا ونساء وأطفالا- وكلهم يقولون «أبوصالح بال على… حاله»!! لم يتحمل «أبوصالح» كل هذه البهذلة، وقرر الهجرة إلى أرض الله الواسعة، وقتها كان العديد من أهل فلسطين يغتربون إلى أميركا الشمالية والجنوبية، وبعضهم إلى الدول العربية وأفريقيا، و.. هكذا كان!! هاجر «أبوصالح» تاركًا خلفه قريته التي فضحته.
بعد عشرين سنة اشتد به الشوق إلى أهله وناسه فقرر العودة!! وهو جالس علي كرسيه في ذلك الباص المتهالك الذي يتجه به عبر الجبال إلى مدينة «نابلس» ومنها على ظهور البغال إلى قريته التي ترقد في واد بين جبلين، قرر أن يتوقف قبلها ببضعة كيلومترات ويسير على قدميه مستكشفًا أحوالها وأحوال أهله قبل أن يدخل عليهم، وهكذا.. كان!! وصل إلى «عين ماء» الفتيات والنسوة اعتدن على تعبئة جرارهن الفخارية منها، فاختبأ خلف إحدى الصخور، وصار يسمع أحاديثهن!! سمع واحدة تقول للأخرى: « متي تزوج ولدك من ابنة خالته»؟! فترد عليها المرأة الثانية قائلة: «والله يا أختي ابني تزوج في اليوم إلي أبوصالح بال فيه على… حاله»!! صدم الرجل فهم لم ينسوا حكايته حتي اللحظة، بل وحتى جعلوها تاريخًا يعودون إليه في تحديد أحداث وقعت لهم، فأقسم على عدم دخول القرية وقفل عائدًا من حيث أتى وإلى بلاد المهجر مرة ثانية التي عاش على أرضها حتي مات ودفن فيها!! اختتم العجوز الفلسطيني الراوي حكايته هذه وهو يضحك قائلا: «حتي بعد أن مات لم ينس أحد قصته فقد سمعتها من أبي الذي مات منذ عقود ورويتها لأولادي الذين أطلعوا أبناءهم عليها، وها أنذا الآن ارويها لمواطن كويتي لتصبح حادثة أبوصالح من التراث الشعبي – ليس الفلسطيني فقط- بل.. والعربي أيضا!! والآن؟ هل تأكد لكم أن النسيان.. نعمة؟! على الأقل بالنسبة للمرحوم المغترب.. «أبوصالح».. طيب الله ثراه!!
***
آخر العمود:
لقد قال النبي وكان برًّا
اذا زرت الحبيب فزره غبَّا
وأقلل زور من تهواه تزدد
إلى من زرته ثقة وحبَّا
***
آخر كلمة:
حكمة: الأمة الحرة بها تذمر كثير وبؤس قليل، والأمة المستبدة بها تذمر قليل وبؤس… كثير!!