التنمية.. مفهوم برز بقوة على الساحة الكويتية منذ إقرار القانون رقم 9 لسنة 2010 بشأن خطة التنمية، وأصبح بذلك من أهم المفاهيم التي تقيم على أساسها أداء الحكومات الكويتية سواء من قبل السلطة التشريعية أو من قبل عامة المواطنين، وقد لوحظ منذ تلك الفترة التي بدأ تداول هذا المفهوم بشكل ملفت أن هناك خلط وقصور يعاني منه أعضاء السلطتين التشريعة والتنفيذية وعامة المواطنين في فهم ذلك المفهوم (التنمية).
إن مفهوم التنمية ليس من المفاهيم المعقدة بل إنه مفهوم سهل الفهم وسهل التعبير عنه، إنه من المفاهيم الذي لو طبق بشكل سليم سينقل الدولة من حالة قد تتضمن العديد من المشكلات والقضايا الشائكة إلى حالة قد تكون أفضل تقل فيها المشكلات وتحوز على الرضا العام من قبل أغلب أطياف المجتمع.. لذلك ماذا يعني هذا المفهوم؟
بكل بساطة نستطيع القول أن مفهوم التنمية مر بمراحل عديدة منذ بداية فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي بداية من تبلور نظرية اقتصاديات التنمية، والذي كان يهدف منه التعامل مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تواجه الدول النامية التي حصلت على استقلالها السياسي في ذلك الوقت، وحتى وصلنا في الوقت الحالي إلى تبلور اتجاه أو إتفاق دولي عام على أنه يمكن تعريف التنمية «كعملية لتوسيع حريات البشر وخياراتهم»، فتلك الحريات التي تم الاتفاق عليها قد تؤدي إلى توسيع «القدرة أو استطاعة» الناس ليحيوا الحياة التي يثمنونها أو يرغبون في تحقيقها!!
ولو تمعنا قليلا في تعريف التنمية الذي طرحناه سنجد أن حرية الناس هي أساس عملية التنمية وغايتها الرئيسية، فكيف يكون ذلك؟ لكي يستطيع الناس أو المواطنون العيش بحرية يجب أن تتوفر لديهم القدرة أو الاستطاعة للوصول إلى بعض الموارد الهامة وتقليل مستوى المشكلات التي يعيشون في كنفها، فمثلا لا تنمية في ظل وجود معدلات عالية من الفقر في الدولة، أو أن تعيش البلاد في حالة غير مستقرة سياسياً كوجود حرب أهلية أو التفرد في السلطة أو اتخاذ القرارات بشكل فردي، أو أن تعيش الدولة في حالة اقتصادية متردية، ففي هذه الأوضاع سيكون جل إهتمام الناس أن يوفروا إحتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء وأمن، ومن هنا فإنهم لن يلتفتوا إلى القضايا التي تقيد حرياتهم وتحد من مشاركتهم الفعالة في بناء الأوطان، أي أن حريتهم ستكون رهن ما يعرف بتوفير لقمة العيش، فلن يفكروا في مستقبل بلادهم ولا تطوره، فينتج عن ذلك إما أنظمة دكتاتورية، وذلك بسبب ضعف المشاركة السياسية لأبناء الوطن، أو تردٍ في الأوضاع الاقتصادية وبروز ظاهرة الاحتكار، أو تردٍ في الخدمات العامة في البلاد من صحة وتعليم ورعاية سكنية وغيرها، أو ضعف في تلبية احتياجات المجتمع وغيرها من أمور قد تجعل من الدولة في مصاف الدول المتخلفة!!
والعكس صحيح، فلو توفر لأفراد الشعب القدرة أو الاستطاعة للوصول إلى الموارد التي تقيهم من مجموعة المشكلات سالفة الذكر، وتوفر لديهم مستوى تعليمي جيد، ووفرت لهم سبل العيش المحترم، ووسائل المعرفة من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة، وضمان توسيع المشاركة السياسية لهم من خلال الأحزاب والتجمعات وغيرها من صور تلك المشاركة، سيؤدي ذلك في النهاية دون أدنى شك إلى توسيع حرياتهم وقدرتهم على الإختيار والمشاركة في البناء وتنمية وطنهم!!
إذاً مفهوم التنمية ليس مقتصراً على القطاعات الاقتصادية فقط، أو ما يعرف بتنمية المدن كبناء المباني الفاخرة كما نجده في تجربة إمارة دبي، أو بتنمية قطاعات سياسية كوجود أحزاب وبرلمانات وحكومات منتخبة، بل هي عملية شاملة جامعة أساسها البشر وغايتها تحقيق حريتهم، وحتى يتم ذلك لا بد من تحقيق مجموعة من الأهداف التي تمس كافة قطاعات الدولة والتي تم إستنتاجها من تعريف مفهوم التنمية الذي تم تناولة ومفاده أنها «عملية لتوسيع حريات البشر وخياراتهم».. فما هي تلك الأهداف التي تحقق توسيع حرية البشر ومن ثم تحقيق التنمية؟
الهدف الأول: ضمان الحريات السياسية بمعناها العريض، وهي تتضمن إعطاء الناس فرصة ليقرروا من سيحكمهم وعلى أي مبادئ، وليراقبوا وينتقدوا ويحاسبوا السلطات، وليعبروا عن آرائهم من خلال صحافة حرة، وحق التجمع والتظاهر السلمي، وليقرروا الانضمام لمختلف الأحزاب والهيئات السياسية!!
الهدف الثاني: ضمان التسهيلات الاقتصادية، ويعني إعطاء الفرصة للأفراد لاستغلال الموارد الاقتصادية لأغراض الاستهلاك والإنتاج والتبادل، أو بمعنى آخر أن يكون هناك فرصة لجميع المواطنين في الوصول إلى الموارد الاقتصادية في البلاد دون إحتكار لفئة أو نخب معينة!!.
الهدف الثالث: ضمان الفرص الاجتماعية الخاصة بالترتيبات والخدمات الاجتماعية في المجالات التي تؤثر في الحريات الحقيقية المتاحة للأفراد ليعيشوا حياة طيبة، كالترتيبات والخدمات المتعلقة بالتعليم والصحة والسكن، أي أن توفر الدولة مستوى تعليمي جيد ومتاح للجميع، وأن تتمتع الخدمات الصحية بمستوى مقبول وغيرها، وهي ترتيبات وخدمات مهمه قد تؤدي إلى ضمان إرتفاع معدلات المشاركة في النشاطات الاقتصادية والسياسية، ومستوى فعاليتها!!
الهدف الرابع: توفير ضمانات الشفافية، والتي تعزز الثقة في التعامل بين الناس في إطار المجتمع، وهو أمر يتعلق بالحرية في التعامل بين الأفراد على أساس من ضمان الإفصاح والسلاسة، حيث تلعب هذه الضمانات دوراً واضحاً في الحد من الممارسات الفاسدة وعدم المسؤولية المالية والتعامل بنوايا مبطنة وغير معلنة!!
الهدف الخامس: تحقيق الأمان الوقائي (الحمائي)، وذلك من خلال توفير شبكات حماية ورعاية اجتماعية، للحيلولة دون وقوع الشرائح الضعيفة في المجتمع في شباك الفقر والعوز والحاجة، ويشتمل مجال الأمان الوقائي على ترتيبات مؤسسية ثابتة ومستمرة (كالإعانات، وبرامج الضمان الاجتماعي، والمنح الداخلية) وترتيبات انتقالية حسبما تتطلبه الظروف (كبرامج العون الطارئة في حالات المجاعة والبرامج العامة للتشغيل)!!
ختاماً يمكن القول أنه يتوجب على متخذ القرار والأجهزة الفنية أن تأخذ بالاعتبار عند إعداد خطط التنمية وصياغة السياسات العامة للدولة أن العملية التنموية يجب أن تنطلق من النقاط سالفة الذكر من التعريف القائم على حرية البشر وتوسيع خياراتهم وتحقيق الاهداف العامة، لكي نستطيع الوصول إلى عملية تنموية سليمة ورصينة ترضي الجميع وتحقق طموحات التطور والتقدم، كما حدث ذلك في تجارب تنموية ناجحة كالتجربة اليابانية التي عظمت قيمة البشر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من تطور وتقدم على جميع الأصعده!!
ولكن كما يقال
لقد اسمعت لو ناديت حيّا
ولكن لا حياة لمن تنادي