منذ فترة طويلة وأنا أتوقع انهيار أسعار الذهب، ولذلك خصصت له مقالي رقم 13 الذي لم يكتب بعد منذ خمس سنوات في سلسلة مقالاتي بمناسبة الأزمة المالية العالمية بعنوان “عالم لا يتعلم من أزماته”، والواقع أنني وقتها لم أكن أتصور أن أنتظر هذا المدى الزمني الطويل حتى ينهار سعر الذهب، لكن طبيعة الأزمة وتعقد مراحلها وتطور أوجهها انتقلت بالذهب من مرحلة إلى أخرى.
فقد كان من الواضح أننا دخلنا مرحلة جديدة من المضاربة اللاتوازنية في الذهب، التي تستند إلى مجموعة من العوامل أهمها الترويج لبعض العبارات التي لا يفهم طبيعتها أو مغزاها الجمهور الأعظم من صغار المستثمرين، وأهمها أن الذهب هو الملاذ الآمن الوحيد في هذا العالم، وكأن العالم في حالة حرب، وكأن الجميع عرضه للتشرد والطرد من عمله أو محل إقامته حتى يكون الذهب هو ملاذه الآمن ضمن ما خف وزنه وعلا ثمنه. ملاذ آمن لمن؟ ولماذا؟ سؤال لم يجب عنه من يرددون هذه العبارة المضللة على نحو مقنع لأمثالي.
يردد المضاربون الكبار في الذهب أن النقود الورقية لا قيمة لها، وأن أمريكا بالذات تغرق العالم بتريليونات الدولارات التي تطبعها ليل نهار، في إشارة إلى أن عملة العالم إلى انهيار، وأن التضخم الجامح قادم لا محالة، حيث لا يساوي الدولار شيئا، وعندها سيكون للذهب الكلمة الأولى والأخيرة، وكأن الدنيا كلها لا تملك نقودا سوى في صورة الدولار، وكأن أمريكا هي زيمبابوي الثانية، ومع ذلك فقد دارت الدورة وأصبح الدولار اليوم هو أقوى عملات العالم.
كذلك يرددون أن سعر الذهب ثابت بالنسبة لجميع السلع والأصول في العالم، فهو الأصل الوحيد الذي يحافظ على قيمته، ومرة أخرى لا أدري من أين جاءوا بصحة هذه العبارة، مع أن أي مقارنة بسيطة بين معدل نمو سعر الذهب والسلع والأصول الأخرى تثبت عدم صحة هذه الحجة لشراء الذهب.
منذ أن انفصل الذهب عن عملات العالم في 1971، تحول الذهب من معدن نقدي، إلى معدن عادي يستخدم في الصناعة وفي أغراض الزينة. إلا أن صناديق الاتجار في الذهب والمضاربين الكبار فيه حولوه أخيرا إلى أداة مهمة لشفط مدخرات صغار المستثمرين في الذهب، وذلك بمحاولة جر هؤلاء جميعا إلى حلقة مضاربة خبيثة لا يملكون فيها ناقة ولا جمل، بينما يلعب المضاربون الكبار بقواعد السوق صعودا ونزولا بهدف واحد هو تعظيم عوائدهم من تقلبات سعر الذهب، طالما أن هناك مئات الملايين من السذج في العالم جاهزون للمضاربة في الذهب.
لضمان استمرار هذه الحلقة الخبيثة من المضاربة في المعدن، جيش المضاربون الكبار مجموعة من المحللين المرتزقة لهدف واحد هو الترويج للذهب، مصدر الثروة القادم، والذين يقومون باستخدام بعض المعالجات الساذجة التي تنطلي على فاقدي الخلفية الاقتصادية. على وقع مثل هذه المعالجات استمر الذهب في الارتفاع حتى تجاوز 1900 دولار للأوقية الواحدة في أوائل 2011. ومنذ ذلك الحين والذهب يتراجع بصورة مستمرة على المدى الطويل. هذا الأسبوع فاجأ الذهب العالم بالتراجع السريع غير المسبوق وعلى النحو الذي لم يتوقعه أحد، أن يحدث شبه انهيار لأسعار الذهب في غضون هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبيا، ولكن لماذا هذا التراجع الكبير في سعر الذهب؟
واقع الأمر أن هناك مجموعة من العوامل التي اجتمعت في وقت واحد لتضغط على الذهب نحو النزول، وكعادتهم في مثل هذه المواقف أخذ المضاربون الكبار في تكثيف عمليات بيع الذهب ليتركوا صغار المستثمرين غرقى في سوق الذهب لا حول لهم ولا قوة، ومع ترديدهم لعبارات بأن الذهب ملاذ آمن، في أوقات التراجع يكونون أول من يهرب منه.
لفترة طويلة ظل الأفاقون في صناعة المضاربة يرددون عبارة ينقلها الجميع عن غير وعي أو علم، وهو أن الصين تشتري الذهب وتكدسه، استعدادا لتحويل الرينمنبي إلى عملة عالمية، وأن طلب الصين على الذهب هو عنصر الأمان للسوق، فوجود دولة بحجم الصين وقوتها الاقتصادية سيضمن استمرار تيار الطلب على الذهب ومن ثم ارتفاع أسعاره. ساعد على ترويج هذه العبارة غير الصحيحة صمت الصين وعدم إفصاحها عن مخزون الذهب الذي يملكه بنك الشعب الصيني. أخيرا كشفت الصين عن مخزونها الذهبي، الذي حمل مفاجأة لم يتوقعها السوق، وهي أن الرصيد الحقيقي للصين من الذهب لا يمثل سوى نصف ما يتم تداوله من أرقام حول الاحتياطي الذهبي للصين، وأن مشتريات الصين للذهب وتكديس الذهب في بنك الشعب الصيني ما هو إلا واحدة من الخرافات التي يتم ترويجها عن الذهب.
المشكلة في سوق الذهب أن السوق يتأثر بشكل أساسي بتوقعات كبار المتعاملين فيه حول الاتجاهات المستقبلية لسعر الذهب على المدى القصير، وتوقعات المضاربين حاليا تشاؤمية، أي أن اتجاه الذهب نزولي، لذلك تتزايد عمليات بيع الذهب الذي لم يعد بالنسبة لكثير من المستثمرين الكبار الملاذ الآمن، كما يرددون.
وكأي سلعة تجارية في العالم يتم تسعيرها بعملة العالم، أي بالدولار الأمريكي، عندما تتقلب قيمة الدولار يتقلب سعر الذهب بصورة معاكسة. منذ فترة تتصاعد قيمة الدولار ويتراجع بالتبعية سعر الذهب، على سبيل المثال ارتفعت قيمة الدولار بنحو 22 في المائة بالنسبة لعملات العالم، خلال العام الماضي، واستمرار ارتفاع الدولار في القيمة من العوامل الضاغطة على سعر الذهب نزولا منذ فترة.
واقع الحال أن ارتفاع شهية المستثمرين في الذهب، خصوصا صغار المستثمرين منهم يعكس انخفاض الفرصة البديلة له، وهي معدلات العائد التي يمكن جنيها على المدخرات من خلال إيداعها في المصارف، وهذه شهدت مسارا مختلفا في العالم منذ الأزمة، حيث ركزت البنوك المركزية الرئيسة في العالم على انتهاج سياسات نقدية توسعية تهدف لخفض معدلات الفائدة إلى مستويات دنيا من أجل تنشيط الطلب الكلي ومحاولة الخروج من الأزمة. في ظل معدلات الفائدة المتدنية على المودعات يبحث المدخرون عن أوعية استثمارية تعطي عوائد أعلى، لذلك تم توجيه جانب من المدخرات نحو الاستثمار في الذهب.
لقد أعلنت رئيسة الاحتياطي الفيدرالي أخيرا أقوى الإشارات عن احتمال قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع معدلات الفائدة في وقت ما هذا العام. رفع معدلات الفائدة سيعني شيئين يؤثران سلبا في الذهب في الوقت ذاته، الأول هو بدء سحب تريليونات الدولارات المصدرة بموجة السياسة النقدية التوسعية التي انتهجتها أمريكا منذ بداية الأزمة، التي ترتب عليها توفير تمويل ضخم بتكلفة زهيدة لكل الأصول، بما فيها الذهب بالطبع، وبالتالي سترتفع تكلفة تمويل صفقات الذهب. الثاني هو ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة للاستثمار في الذهب، ببساطة شديدة لأن الذهب معدن عقيم، لا يولد أرباحا أو فائدة طالما أن أسعاره السوقية ثابتة، بعكس الأصول المالية الأخرى التي يترتب على الاستثمار فيها الحصول على فوائد أو أرباح.
كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على تكوين صورة سوق دب “تتراجع فيه الأسعار” للذهب، ومن ثم بدأت صفقات البيع للتخلص من المعدن في الوقت الحالي، على أمل معاودة شرائه في المستقبل عندما يقوم السذج ببيع ذهبهم خوفا من تراجع الأسعار أكثر، الأمر الذي يضغط على السوق أكثر وأكثر نحو التراجع.
هل ما يحدث حاليا هو انفجار فقاعة أسعار الذهب؟ الإجابة هي لا، فما زال الوضع الاقتصادي العالمي غير مستقر، والمخاطر التي أدت إلى الفقاعة الحالية للأسعار ما زالت قائمة بشكل أو بآخر، وعلى الرغم من أن الذهب منذ الأزمة المالية العالمية يعيش حالة فقاعة سعرية كبيرة، لكن هذه الفقاعة تختلف عن غيرها من الفقاعات في أنها لا تنفجر فجأة، إنها تنفجر ببطء شديد وهذا ما يحدث للذهب منذ نحو خمس سنوات.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟