الخلاف بين اليونان وأوروبا حاد جدا، فاليونانيون يتهمون الدائنين بمحاولة إذلالهم وفرض شروط قاسية عليهم، وبأن اليونان هو الشعب الوحيد في منطقة اليورو الذي فرضت عليه هذه الشروط القاسية من بين شعوب أوروبا، الأمر الذي يعكس سوء تقدير لمدى رداءة الأوضاع التي يمر بها الاقتصاد اليوناني وما يجب عليهم فعله في مثل هذه الظروف، بل إن دولا أخرى في الاتحاد النقدي تتهم اليونانيين بأنهم لم يفعلوا سوى القليل لإنقاذ اقتصادهم، وأنهم يستندون في ذلك إلى المساندة الأوروبية، مفضلين عدم التحرك بالجدية اللازمة للتعامل مع المشكلات الاقتصادية التي تواجهها اليونان.
أبسط مثال على ذلك دول البلطيق، فمتوسط الحد الأدنى للأجور في هذه الدول نحو 300 يورو، بينما الحد الأدنى للأجور في اليونان نحو 700 يورو، وهذه الدول تقارن ما قامت به في أعقاب الأزمة بما تقوم به اليونان حاليا، فعندما حدثت الأزمة تم تخفيض أجور العاملين فيها وكذلك المزايا الأخرى. أكثر من ذلك فقد تمت زيادة ساعات العمل، ومع ذلك لم يخرج سكانها إلى الشوارع مثلما يفعل اليونانيون، وبدلا من التعامل مع الأوضاع بالجدية اللازمة، فإن اليونانيين يطالبون بالمزيد من الديون مع أنهم غير قادرين على سدادها، لكي يطالبوا بعد ذلك بشطبها، وهكذا، مثل هذه الاستراتيجية قد تصلح لمرة أو مرتين، لكنها لا تصلح على المدى الطويل، وعلى اليونانيين أن يعلموا أن حكوماتهم لابد أن تدفع ديونها يوما ما، وأنها ستدفعها من جيوبهم.
عندما أتى حزب سيريزا إلى الحكم تظاهر بالتمسك بالموقف المتشدد في مواجهة الدائنين، دون تقييم دقيق لطبيعة الأوضاع على الأرض ولطبيعة المخاطر التي تواجه اليونان، بحيث أصبح الحديث عن الخروج من اليورو حديثا طبيعيا يتناقله الناس دون أن يفهموا عواقبه، وقد دفع ذلك إلى تعنت سيريزا في مواجهة الدائنين، وقد بلغ بهم التهور إلى طلب استفتاء الناس على شروط الدائنين، وتهييج الشارع ضدها، وهو ما مارسه تسيبراس رئيس الوزراء نفسه. في مثل هذه الأوضاع يكفي أن تلقي عدة شعارات على البسطاء من الناس فتحصل على ما تريد من نتائج، وجاءت حاسمة برفض الشروط.
ظن تسيبراس أنه يستطيع أن يفاوض الدائنين بهذه النتيجة باعتبارها ورقة ضغط، أكثر من ذلك فقد تجاوز الخطوط الحمراء في أوروبا وتظاهر بمدر جسور التعاون مع روسيا، كورقة يمكن أيضا أن يلعب بها معتقدا إمكانية حصوله على ما يريد شريطة وقف اتصالاته بالروس. كل هذه الإجراءات غير المسؤولة تطلبت من الجانب الأوروبي موقفا حازما، وهو ما تولت القيام به البلدوزر الألماني ميركل المستشارة الألمانية، التي اقترحت بكل بساطة خروجا مؤقتا لليونان لمدة خمس سنوات ثم العودة مرة أخرى، وبعد أن كان الجميع يؤكد أنه لن يسمح لليونان بالخروج من المنطقة، بدأ الحديث عن إمكانية التضحية باليونان حتى تسير المنطقة بسلام.
واقع الأمر أن اقتراح ميركل ليس اقتراحا، وإنما طردا دائما لليونان من المنطقة، فمن المؤكد أن أوضاع اليونان المالية والاقتصادية بعد خمس سنوات لن تمكنها من استيفاء شروط الدخول مرة أخرى والمنصوص عليها في اتفاقية ماسترخت للانضمام إلى اليورو.
أسقط في يد تسيبراس وبدا في الأفق السيناريو المرعب للإفلاس، وأخذت ميركل تدق بمطرقة من حديد، غير آبهة لمخاطر خروج اليونان، وأصرت على ضرورة تنفيذ اليونان برنامجا جادا للإصلاح المالي والاقتصادي، وبالفعل أثناء الجلسة الماراثونية يوم الأحد الماضي لقادة المنطقة التي استمرت لمدة 17 ساعة، استعدت ميركل لمغادرة الاجتماع في السادسة صباح الإثنين، إيذانا بالخروج الحتمي لليونان، لتبدأ بعدها بساعات مؤشرات سقوط الاقتصاد اليوناني.
لم يجد تسيبراس بدا سوى الانصياع للشروط لإنقاذ بلاده من كارثة اقتصادية حتمية، ووافق على كل ما فرضه الدائنون، حيث كان بعضها قاسيا للغاية ويمس سيادة اليونان، ولكن هذا ما لا يفهمه اليونانيون أنه إذا كنت مدينا فلا تسأل عن سيادة ولا استقلالية.
مع الأسف الشديد أدى تعنت حزب سيريزا منذ وصوله للحكم إلى التسبب في تعميق المشكلات الاقتصادية والمالية، فالقطاع المصرفي خال من السيولة، وتم فرض الرقابة على تحويلات الأموال، وكذلك حدود قصوى على السحب اليومي من المصارف، كما تراجع معدل النمو مرة أخرى منذرا بتعقد مشكلة الديون على نحو أكبر. ففي تقرير حديث لصندوق النقد الدولي نبه إلى أن نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان سترتفع من نحو 180 في المائة حاليا إلى 200 في المائة في غضون عامين فقط. هذا هو الثمن الفادح الذي دفعه اليونانيون لوصول سيريزا للحكم. بالطبع لا يمكن أن نلوم الشعب على هذا الاختيار السيئ، ففي ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة يبحث الناس عمن ينتشلهم مما هم فيه أيا كانت فلسفته. شخصيا أعتقد أن حكومة سيريزا ربما لا تستمر كثيرا في حكم اليونان، وأن انتخابات أخرى قادمة بأسرع مما يتصور الجميع.
منذ اللحظة الأولى التي فاز فيها حزب سيريزا في الانتخابات بسبب وعد زائف للشعب اليوناني بألا تقشف بعد اليوم، أيقنت أن الحزب لن ينجح في الوفاء بما وعد به، وعلى مدى عدد من المقالات التي نشرتها هنا في “الاقتصادية”، وفي نقاشاتي كافة حول الموضوع كنت أؤكد أنني أعتقد أن اتفاقا ما سيبرم مع الدائنين لتجنب خروج اليونان من اليورو، والذي رسمت آثاره الكارثية في الاقتصاد اليوناني في مقال نشر الأسبوع الماضي بعنوان “مسار إفلاس اليونان .. مقارنة بالحالة الأرجنتينية”.
صباح يوم الإثنين الماضي تأكدت توقعاتي عندما أعلن عن التوصل لاتفاق مع الدائنين يسمح بمد برنامج المساندة لمدة ثلاث سنوات أخرى، ولكن ما الذي يدفع أوروبا لمساندة دولة لا أمل في أن تخرج من عثرتها على المدى المتوسط؟ لماذا تتحمل أوروبا كل هذه التكلفة بمد خطوط الائتمان لدولة مشكوك في قدرتها على سداد ديونها أصلا؟ وهو الأمر الذي أعلنه صندوق النقد الدولي أخيرا.
واقع الأمر أن أوروبا بين نارين، الأولى السماح لليونان بالخروج وتحمل تكلفة خروجها على المديين القصير والمتوسط، والأخرى استمرار السماح لليونان في عضوية الاتحاد النقدي بأي ثمن. الحقيقة أنه مقارنة بين الخيارين، ربما يكون استمرار اليونان في المنطقة، على الرغم من كل سلبياته أفضل، لأسباب عديدة ليس هنا مجال مناقشتها، ولكن بالتأكيد أهمها هو الحفاظ على تماسك المنطقة وتأمين استمرار أي عضو مهما كانت أوضاعه في الأجلين القصير والمتوسط.
فضلت أوروبا استمرار اليونان مع فرض برنامج إعادة هيكلة قاس عليها، يشمل إجراءات عديدة تتمثل في إصلاح نظم المعاشات، وتعديل قوانين الضرائب، وإصلاح سوق العمل وتخفيف القواعد التجارية وتخصيص شبكة نقل الكهرباء، وتعزيز أوضاع المصارف اليونانية، في مقابل قيام المنطقة بتدبير ما بين 82 – 86 مليار يورو لإنقاذ اليونان.
أكثر من ذلك فقد نحّى تسيبراس كبرياءه جانبا وقبل أن تخضع بلاده لخطة للمراقبة من جانب الدول الدائنة، وتجنيب 50 مليارا من الأصول اليونانية يتم بيعها لتوضع عوائدها في صندوق خاص في أثينا لإعادة سداد الديون، الأمر الذي يراه اليونانيون مخالفا للسيادة. كذلك تمت الموافقة على خطة إصلاح للإدارة العامة في اليونان بمراقبة اللجنة الأوروبية. أكثر من ذلك فقد أصبح على الحكومة اليونانية إلغاء بعض القرارات التي اتخذتها بزيادة الإنفاق في بداية هذا العام، بهدف إنهاء التقشف وبدء برنامج لزيادة الإنفاق العام كما وعد الحزب أثناء الانتخابات. كل هذه الخطوات لا بد من تمريرها في البرلمان اليوناني في الوقت المحدد كشرط لكي تبدأ المحادثات حول حزمة التمويل المقترحة.
يوم الإثنين الماضي عاد تسيبراس إلى بلاده لكي يسوق برنامج التقشف بشروط أقسى من تلك التي رفضها الشعب اليوناني في الاستفتاء الشهير، لكن نتائج الاستفتاء لم تعن شيئا بالنسبة لميركل، والتي بعد ما حدث من المؤكد أن عربات جمع القمامة مشغولة الآن بنقلها.
أعتقد أن الكثيرين ممن قالوا لا في الاستفتاء غير راضين على هذه النتيجة التي وصلت اليها اليونان، لكنهم لو اطلعوا على مآسي المستقبل التي يمكن أن تلحق بهم مع إعلان الإفلاس لاختاروا ما لجأ إليه تسيبراس. وأخيرا، وحتى كتابة هذا المقال لم أطلع على نتائج معركة تسيبراس مع أعضاء حزبه في البرلمان، ومن المؤكد عزيزي القارئ أنك تعرفها الآن، لأنها من المفترض أن تصدر بنهاية يوم الأربعاء الماضي.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟