منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كان النظام في طهران يمثل محور الشر ومصدر الإزعاج الأول في منطقة الخليج والشرق الأوسط والعالم بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الغربية، ورصد المعسكر الأميركي مئات المليارات من الدولارات وشارك بالعتاد الحربي والمعلومات الاستخباراتية والمقاطعة الاقتصادية للإطاحة بالحكم الثوري، وألقى بكل ثقله في الحرب الطاحنة التي امتدت إلى نحو عقد من الزمن خلف صدام حسين لتدمير هذا البلد لدرجة تحول معها صدام إلى غول يهدد كل جيرانه وما زالت المنطقة تدفع فواتير ذلك غالياً.
فجأة وبعد الاتفاق النووي يصطف زعماء أوروبا لزيارة طهران ويحلم الرئيس الأميركي باراك أوباما بأمنية رئاسته للذهاب إلى الجمهورية الإسلامية، وإيران الشر تحوّلت بقدرة قادر إلى عروس نووية الكل يتودد في خطبتها والتقرب منها؛ لأنها الآن أجمل فتاة في العالم، وتملك ثروة مالية واستراتيجية لا يعلمها إلا الراسخون في علم الاقتصاد والمصالح التجارية.
الدبلوماسية الإيرانية المتوارثة بالصبر والتأني وطول البال أثبتت جدارتها وتفوقها في مقابل أقوى ست دول في العالم بقيادة الولايات المتحدة، وإيران المحاصرة والمعاقبة طوّرت ذاتها بذاتها وتفوقت على نفسها بجهودها القومية لتصبح قوة اقتصادية وذات مكانة علمية في الفضاء والطب والتكنولوجيا والصناعة، انتهاءً بالتفوق العسكري، وبلغت النادي النووي دون منّة الغرب.
الغرب اليوم يتودد إلى إيران بالشراسة نفسها التي كان يواجهها بها، وبنهم غريب في ظل التدهور الاقتصادي واحتمالات انهيار منظومة اليورو والانحسار الأميركي عالمياً، فالفرنسيون تحديداً كانوا الأشد والأعنف حتى آخر رمق في المفاوضات النووية، ومع ذلك يتباهى رئيس الوزراء الفرنسي بأنه سيكون أول مسؤول يزور إيران لإبرام اتفاقيات تجارية وإيجاد موطئ قدم هناك، والشركات النفطية الأميركية لم تنتظر حتى الاتفاق النهائي وهرولت إلى طهران قبل عدة أسابيع، والألمان بانتظار تأشيرة الدخول والقائمة تمتد لكل بني “سام”!
لكن على إيران وهي في نشوة الانتصار السياسي ألا تستعجل في فتح أبوابها “للشيطان الأكبر” وإخوانه، وبمقدور الحكومة الإيرانية أن تذل من حاربها وقاطعها وشارك في سفك دماء الإيرانيين، وهدم بيوتهم على رأسهم، وأن تكون انتقائية لآخر درجة، فالعروس الدلوعة من طبعها أن ترفض كل الخطّاب، وأن تبحث عن أي عذر لطردهم وأن تتشرّط كما تشاء، فرفع العقوبات يتيح لها أن تتعامل مع أسواق العالم بكل أريحية، ولذلك قد يكون من الأفضل سياسياً واستراتيجياً أن تبدأ إيران بالدول الغربية الأسهل كأستراليا وكندا وألمانيا واليابان، وأن تعزّز بناء استراتيجيها مع حلفائها الذين لم يتخلوا عنها مثل روسيا والصين والشرق الواعد.
كما أن غياب الهاجس النووي العسكري عامل مهم لإعادة جسور الثقة مع منطقة الخليج، وبفهم أمني إقليمي مشترك وسط التهديدات الجديدة المشتركة، وذات الطابع الإرهابي العنيف، فالأميركيون لم يعودوا الأم الحنون لدول الخليج العربية، ووجودهم بات ثقيلاً على شعوب المنطقة، وكذلك إحساسهم الذاتي، فلا يترك لهم المجال بأن يدخلوا علينا من الشباك مجدداً حتى يراجعوا حساباتهم، واحترام أولويات دول المنطقة ومصالحها ومستقبل شعوبها وإن تطلّب ذلك مفاوضات ماراثونية جديدة!