يتهيب الكثيرون من «العلمانية»، وتعتقد الاغلبية انها ضد الدين. لكن لا يعلم اغلب المسلمين ان العلمانية هي في الواقع «اختراع» اسلامي وان الدولة في التاريخ الاسلامي ظلت الى حد بعيد معزولة عن الدين او ان الدين ظل يملك استقلالا تاما عن الدولة.
لا جدال في ان الخلافة الاسلامية الرشيدة شهدت جمعا بين الامامة والخلافة. وان الخليفة ظل يمثل السلطة الدينية والدنيوية. لا جدال في ذلك.. لكن منذ سقوط الخلافة الرشيدة فان الدين فصل نفسه عن الدولة. واستقل كل الائمة المعروفين عن السلطة الدينية. بل يمكن القول انه نشأت سلطة دينية الى جانب السلطة الدنيوية تحد منها وتتحداها في اغلب الاحيان.
ائمة المسلمين الاربعة رفضوا جميعا العمل لدى «السلطة» او وضع انفسهم تحت امرتها. وتحملوا جميعا الاضطهاد والتعذيب والنفي مقابل احتفاظهم باستقلاليتهم وتعففهم عن الانخراط في سلك السلطة. اي انهم جاهدوا لفصل الدين عن الدولة. الامام الاول ابو حنيفة تم اضطهاده وسجنه في عهد الامويين لمخالفته الرأي الرسمي للدولة. وحظه مع العباسيين لم يكن مختلفا كثيرا فقد تم جلده وحبسه حتى توفاه الله. وبالمناسبة فان سبب خلاف الامام ابي حنيفة مع السلطتين الاموية والعباسية – حسب ما يشيع البعض – يعود الى مساندته المعلنة لاهل البيت.. هذا يعني ان المذهب السني الاول كان «شيعيا» او قريبا من اهل البيت. وهو امر يدعو للتفكر في هذه الايام التي يحاول البعض اشعال الفتنة فيها بين السنة والشيعة. ثاني الائمة الامام مالك بن انس تم جلده وخلع كتفه من قبل السلطة. اما الامام الشافعي فقد اختار النفاذ بجلده والهجرة لمصر بعد ان رفض عرض المأمون بتولي القضاء. ومحنة الامام احمد بن حنبل في خلق القرآن معروفة فقد تم جلده وحبسه لمخالفته رأي السلطة.
جميع الائمة الاربعة المعتمدين رفضوا وضع الدين في خدمة الدولة. هذا يعني ان «العلمانية» لا تعني فقط كما يظن البعض فصل الدين عن الدولة. بل تعني ايضا فصل الدولة عن الدين.. اي استقلال الدين وتقليص فرص السلطة السياسية في الهيمنة على شؤون الناس.. ائمة المذاهب الاربعة رفضوا رفضا قاطعا وضع الدين تحت هيمنة السلطة… الامام الوحيد – ان جازت التسمية – الذي وضع الدين في خدمة السلطة كان محمد بن عبدالوهاب… واعتقد من هنا بدأت محنة الدين.