«الدعشنة» التي أعنيها في هذا المقال: هي محاولة شيطنة الخصم السياسي أو الفكري، وتشويه صورته من خلال ربطه
بـ «داعش» فكريا أو تنظيميا أو تشبيهه به، واتخاذ ذلك ذريعة لممارسة كل أشكال ودرجات الإسقاط والإقصاء في حقه.
لم يقتصر تمدد «داعش» على الأرض، وتثبيت وجوده عن طريق بث الرعب بين الناس نتيجة للعمليات الوحشية التي يمارسها ضد كل من يقف ضد مشروعه، ولكن استطاع أيضا -بسبب التفوق الإعلامي- أن يرسم لنفسه صورة ذهنية في عقول الجماهير، ترمز الى التوحش والإقصاء والتطرف.
ساهمت تلك الصورة الذهنية لـ «داعش» في تقديم خدمة كبيرة لأعداء إرادة الشعوب، وصُناع الثورة المضادة، فقد استطاعوا أن يجعلوا من هذه الصورة السيئة فزاعة يرفعونها في وجه كل من يقاومهم أو يسعى للإصلاح أو التغيير، وإن كان بشكل سلمي، فتم توظيف هذه الصورة الذهنية الوحشية لـ «داعش» في محاربة دعوات التغيير، وإيهام الناس بأن أي تحرك نحو المزيد من الحريات، والتخلص من ربقة الاستبداد سيكون مصيره التحول إلى الحالة الداعشية.
تتمثل «دعشنة» الآخر في جعل كل من يطالب بالإصلاح والتغيير معرضا للاتهام بأنه داعشي أو متعاطف معهم، أو يحمل بعض صفاتهم، وبالتالي عليه الاستمرار في التبرؤ منهم، فأصبح كل من يعارض الوضع السيئ ويسعى الى تغييره مشتبها فيه، وعليه أن يثبت عكس ذلك، وهكذا يتحول دعاة التغيير من الانشغال في الشأن العام إلى الانشغال في أنفسهم لدفع التهمة عنهم.
«داعش» لم يأت. من رحم الثورات العربية السلمية، التي تنشد الحياة الكريمة، وإنما هو ربيب أنظمة الثورات المضادة، التي حكمت المنطقة لعقود طويلة، ولم يجن. العرب منهم سوى القهر والفقر والاستبداد والتبعية والاحتلال، فمحاولة «دعشنة» حركات الإصلاح والتغيير هي نوع من التجني وخلط الأوراق، وشكل من أشكال الإرهاب الفكري الذي يهدف الى جعل دعاة التغيير منكفئين على أنفسهم، وفي وضع الدفاع دائما.
وعلى طريقة «رمتني بدائها وانسلّت» نلاحظ أن «داعش» يمثل الوجه الآخر لأنظمة الثورة المضادة، فالأعمال المستنكَرة التي يقوم بها داعش لا تقل فظاعة ووحشية عن الأعمال التي قامت وتقوم بها هذه الأنظمة، سوى أن داعش يتباهى بأعماله ويبرزها إعلاميا باعتبارها أعمالا بطولية، بينما أنظمة الثورة المضادة تمارس الأفعال ذاتها ولكن في أقبية السجون، وسراديب المقرات الأمنية.. وأحيانا في الميادين!
جاء «داعش» طوق نجاة لأنظمة الثورة المضادة التي كانت بأشد الحاجة إلى طرف يكون أكثر وحشية منها في نظر مجتمعاتها، وفي نظر المجتمع الدولي، كي يضمن بقاء تلك الأنظمة لفترة قادمة، باعتبارها حامية المجتمعات من خطر الإرهاب، بينما في حقيقة الأمر يعتبر «داعش» هو ربما أحد ثمار تلك الأنظمة.