عندما تحدث أزمة بحجم الجريمة الأخيرة التي حدثت يوم 26 يونيو، ويتماسك الناس على أثرها، ويفرحون بها، كأنهم غير مصدقين، فإن هذا يدل على أن الوضع السابق للأزمة كان وضعاً مفككاً، وإلا فإنه لا يصبح هناك داع للتباهي بذلك التماسك ولا الفرح له. إلا أن تكرار ذلك التماسك خلال 4 حالات متباينة في ظروفها ودرجتها وحدتها خلال فترة زمنية امتدت عبر 54 عاماً يشير إلى أن لدينا هنا وفي هذه الأرض “فن للتماسك الاجتماعي”، وهي قد تكون إحدى سمات السلوك الجمعي، أو ما يطلق عليه د. جمال حمدان “عبقرية المكان”. مشكلة ذلك “الفن” الكويتي المتأصل، الذي يتكرر ظهوره عند الملمات، أن مداه قصير، وحالما تغيب المسببات والتهديد المفترض، تتبخر تلك العبقرية وتتبدد شموعه تحت شمسنا الحارقة.
الأزمات الأربع التي نعنيها هي أزمات لها ارتباط بعنصر “تهديد” خارجي سواء كان حقيقياً أو افتراضياً. فقد سبق أزمة الاستقلال سنة 1961 انقسام سياسي منذ 1959 على أثر مهرجان ثانوية الشويخ الذي أقيم لإحياء الذكرى الأولى للوحدة بين مصر وسورية، وإنشاء الجمهورية العربية المتحدة والخطاب الشهير الذي ألقاه جاسم القطامي رحمه الله في ذلك المهرجان. قامت السلطة حينها بإغلاق الأندية والصحف. إلا أنه ما إن أعلن عبدالكريم قاسم تبعية الكويت للعراق، حتى تحرك الناس بالشوارع والتفوا حول قيادتهم و”يا بوسالم عطنا سلاح”، وكان اللافت التفاف القوى السياسية الفاعلة والتي كانت في أغلبها تمثل التيار القومي باتصالاتها العربية دعماً لموقف الكويت، بل ظهر ذلك التماسك عندما طلب الشيخ عبدالله السالم رحمه الله من جاسم القطامي أن يؤسس وزارة الخارجية، وصار أول وكيل لوزارة الخارجية الجديدة.
الثانية كانت حادثة الصامتة، عندما توغلت قوات عراقية في مارس 1973 لعدة كيلومترات داخل الكويت، وقتلت وجرحت عدداً من حرس الحدود الكويتيين، ومن ثم هبت جموع الشعب الكويتي وقواه السياسية مساندة للنظام داعمة للتماسك. وكان قد سبق ذلك تفكك معلن على شكل مقاطعة لقوى سياسية فاعلة لانتخابات 1971، فما إن تم استشعار التهديد حدث التماسك بشكل ملحوظ.
أما الثالثة فقد كانت غزو 1990، الذي تحل علينا ذكراه الخامسة والعشرون بعد أسبوعين. كان المجتمع قبل الغزو في أشد حالات الانقسام السياسي والطائفي في درجة استلاب للسلطة غير مسبوق، فما إن جاء الغزاة حتى تناسى الناس ذلك وتماسكوا بنمط لا تعرفه الشعوب. وتمثلت الحالة الرابعة في جريمة مسجد الإمام الصادق قبل أسبوعين، لكنها جاءت هذه المرة في إطار قيادة مبادرة من رأس الدولة، سحبت المجتمع وراءها، ولن نبالغ إن قلنا الحكومة كذلك.
نحن إذاً أمام نمط متكرر، يعبر عن شخصية جمعية، وسلوك جمعي، إلا أن مشكلة ذلك السلوك الأزلية هي أن مداها قصير، فإن أردنا استمرارها فعلينا المزيد من العمل الشمولي القائم على المساواة والعدالة وسيادة القانون، وإلا فإننا سنظل هكذا تماسك كرد فعل يتلاشى عندما تزول أسبابه.