مهد عصر النهضة الطريق أمام بداية التحرر الفكري والتطور العلمي في القارة الأوروبية، وقد أدت حركة النهضة التي انتشرت في القارة الأوروبية إلى حالة من الاهتمام العام بالفلسفة وتحصيل العلوم والاهتمام بالفكر وتطويره، فإذا ما كانت عصور النهضة قد قضت على الفرامل التي تقف أمام انطلاقة العقل، فإنها كانت بلا شك القاعدة التي بنى خلفيتها معطيات وأسس عصر التنوير في القارة الأوروبية، ففي هذه الفترة انطلقت أوروبا تحتضن فكرا وأسلوبا جديدا مبنيا على تقديس العقل باعتباره العامل الذي يرفع الإنسان أمام الكائنات الأخرى، وبالتالي أُطلق العنان للمفكرين والمبدعين والفنانين لتقديس العقلانية ودورها في صناعة الإنسان وحضارته في ما عرف بعصر التنوير (Enlightenment). لعل من اللافت للنظر أن هذا العصر، ممثلا في الاعتماد الكامل على العقل في تفسير الأمور الطبيعية والإنسانية، تزامن بشكل لافت للنظر مع عصر السلطة المطلقة للملوك (Age of Absolutism) الذي حصل فيه الملوك على سلطات سياسية مطلقة على ممالكهم بلا أي تدخلات من قبل الكنيسة أو اعتراضات من قبل البرلمانات التي تم ترويضها من قبل الملوك، خاصة الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، ولكن حقيقة الأمر أن العصرين تقاطعا بلا أي علاقة سببية بينهما، فجذور الفكر التنويري مرجعيته مختلفة عن مرجعية الحكم المطلق في القارة الأوروبية، فالفكر التنويري ترجع جذوره إلى مرحلة التحرر الفكري والعاطفي الذي ولدته عصور النهضة، كما أن انتشار الثقافة الأوروبية واختلاطها بحضارات أخرى في العالم المختلف بعد عصر الاستكشافات وبداية عصور الاستعمار – أدى إلى امتزاج فكري نتج عنه توسيع لمدارك العقل والفكر الإنساني، ناهيك بتوسيع نطاق العلم والانفتاح الفكري، ويضيف بعض المؤرخين عنصرا إضافيا يبرر ظهور هذا التيار وهو الانتعاشة الاقتصادية في أحوال الطبقات الوسطى بسبب ثورة التجارة وبداية الثورة الصناعية، وهي الطبقة التي تعتمد عليها، في أغلب الأحوال، حركات التنمية سواء الفكرية منها أو الاقتصادية، وكل هذه العوامل أدت إلى بداية عصر التنوير في أوروبا.
تشير المصادر التاريخية والفكرية إلى أن الأب الأول لهذا التيار هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، ومن بعده إسحاق نيوتن، وبدرجات أقل الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، فديكارت بنيت فلسفته الأساسية على الحقائق من خلال العقل الذي اعتبره الأداة الأساسية للوصول للحقيقة، فلقد قدس الرجل العقل على اعتباره مصدر الفكر وأساس التقدم البشري، خاصة من خلال منظومته الفلسفية التي توصل إليها بالاستنباط لإثبات وجود الذات ثم من بعدها وجود الخالق سبحانه وتعالى.
حقيقة الأمر أن عصر التنوير اعتمد على عدد من القوائم الأساسية، كما أبرزها أحد المؤرخين، التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: أن العقل هو الأداة الوحيدة التي لا تخطئ في سعيها للوصول للحقيقة، واعتمد أرباب هذا الفكر على أن الحواس هي الخطوات الأولى التي من خلالها يبدأ الإنسان إدراك الظواهر الطبيعية التي يفسرها العقل في ما بعد لتمثل الحقائق، فالحواس هي الوسيلة والعقل هو الغاية في تفسيرها.
ثانيا: إن العالم من حولنا يسير بخطى ميكانيكية لا يستطيع الإنسان أن يغيرها، وأن العقل هو الأداة الأساسية التي تسمح له بأن يتفهمها ويدركها مع مرور الوقت، ورغم أن هذه الفكرة باتت مؤكدة له فإن أرباب هذا العصر اختلفوا في تناولهم للدين ودوره، فمنهم من رفض أن يؤمن بالدين استنادا للعقل الذي يضع الإنسان في مصاف المخلوقات، إلا أن آخرين رفضوا التسليم بهذا التوجه واعتبروا أن العقل سبب للتقرب للخالق وليس العكس.
ثالثا: اقتناع المفكرين والفنانين في هذا العصر بضرورة التبسيط في كل شيء، فكلما زادت التعقيدات الفكرية والدينية قلت قيمتهما، بالتالي تكون أبسط الطبائع هي أفضلها.
رابعا: رفض هذا الجيل من المفكرين الكنيسة الكاثوليكية وما تمثله والحكم المطلق وأثره، معتبرين أن المؤسستين هما السبب الأساسي في التعاسة البشرية وأن تزاوج هاتين المؤسستين هو ما يجب أن تتفاداه البشرية تحت أي ظرف، لأن هذا التزاوج ولد عصور الظلام وقضى على فرص العقل في السيطرة على الإنسان والطبيعة.
وقد أثر على فكر التنوير، بشكل كبير، انتشار الاكتشافات العلمية التي بدأ من خلالها تولد الثورة الصناعية الأولى في إنجلترا ثم في باقي القارة الأوروبية بعدها، ولعل من أبرز العلماء والمفكرين الذين أثروا على الحركة الفكرية والعلمية، إسحاق نيوتن باكتشافه قواعد الجاذبية التي أثرت، بشكل مخيف، على طريقة الفكر التي أصبحت أكثر دقة وأقل مرونة، مرتبطة بالعقل رافضة للعاطفة ودورها، وقد انطلقت الاكتشافات العلمية من وليام جلبرت مكتشف الكهرباء، إلى «لافوازييه» مفجر الثورة الكيميائية التي شرحت فكرة الاحتراق وغيرها من الاكتشافات في مجالات الطب والهندسة والأحياء وغيرها من المواد العلمية.ولعل أخطر ما ولدته حركة التنوير كان الالتزام الكامل لأغلبية المفكرين والفلاسفة بقوانين الطبيعة، وهو ما بدأ يفقد الحركة الفنية والفكرية قوة الدفع الإنسانية التي ولدتها حركة النهضة، فلقد أدت وسيلة التفكير الميكانيكية التي غدت مسيطرة على الفكر إلى فقدان البعد الإنساني، فلم يسع الفنانون والمعماريون إلى البحث عن الجديد، فعادوا مرة أخرى إلى الماضي لمحاولة اكتشاف الحاضر من خلال العودة لجذور الفكر والفن الأوروبي ممثلا في الفن والمعمار اليوناني والروماني، من ثم ظهور مدرسة الكلاسيكية الجديدة ولكن ليس بالأشكال التقليدية، فلم يعد للنحت مكان في الفن، وانتشر معمار «الباروك» (Baroque) في أوروبا، ثم أعقب هذه الحركة المعمارية المعروفة بالـ«الروكوكو» (Rococo) في فرنسا التي حاولت تجديد الفكر المعماري الكلاسيكي من خلال رؤى جديدة أكثر ديناميكية وأكثر إظهارا للعظمة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى أن هذا الطراز واكب، بقوة، عصر السلطة المطلقة للملوك التي سعت لإبراز هيبتها وعظمتها من خلال هذا النوع من المعمار، وقد أثر هذا التوجه أيضا على الفن الذي سيطر عليه نفس هذا الفكر الكلاسيكي، خاصة في المدرسة الهولندية ممثلة في رسومات «روبنز» و«فان دييك» و«ديجو فيلازكيز»، الذين التزموا الخطوط التقليدية للفن التي لم تتضمن زخرفة أو تركيزا على الطبيعة أو الفردية كما كان الحال في عصور النهضة، بينما رفض الالتزام بهذا التوجه رسامون عظماء، على رأسهم ريمبراندت وجويا.
ورغم استمرار عناصر قوة الدفع التي أتت بفكر التنوير وعصره والتي امتدت لحقب أطول أكثر من عصر النهضة وعصر الرومانسية الذي تلا هذه المرحلة الفكرية، فإن أثر عصر التنوير في الثقافة والفن لم يدم طويلا رغم منطقيته وسلامة أعمدته الفكرية، وفي التقدير أن السبب الأساسي لذلك يكمن في تجاهل العناصر الإنسانية التي تمثل أهمية خاصة للإنسان باعتباره كائنا عاطفيا لا يلتزم في كل وقت بالمنطق، ولا يتقيد بالعقل في كل تصرفاته، وهو ما فتح المجال أمام ظهور الحركة الرومانسية لتواجه هذا التيار وجفافه الإنساني، فليس بالعقل وحده يسعد الإنسان !