هذه هي المرة الأولى في تاريخ الكويت التي يقع فيها عمل عنيف يستهدف مواطنين مدنيين في مسجد يصلي فيه أبناء المذهب الجعفري في يوم جمعة رمضاني وفي وقت الصلاة. لقد استهدف التفجير الانتحاري قتل أكبر عدد وإيقاع أكبر ألم كما هدف إلى خلط الأوراق السياسية في الكويت في ظل حالة طائفية محلية وإقليمية تؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية. هذا عمل مدان لأنه يستهدف الأبرياء وفئة من المواطنين في مجتمع لم يعرف إلا القليل من العنف في تاريخه السياسي.
وفي المقابل قتل شاب في مقتبل العمر نفسه، ربما بعد أن وصل إلى نتيجة أنه لم يعد لحياته قيمة، وأن الأفضل له أن يموت موتاً معلناً مع ضحاياه الأبرياء. لا يصل الإنسان بسهولة إلى قرار قتل أبرياء وتحويل جسده إلى متفجرة إلا من وقع تحت تأثير حالة سياسية ونفسية مزمنة في ظل تفكك وتهميش ويأس من الحياة. يقع التطرف في ظل سقوط مرجعيات ونماذج كانت مؤثرة وقيم سياسية قديمة فقدت مكانتها في ظل بروز أفكار تقدم أجوبة قطعية مبسطة للواقع. لقد أصاب انتحاري الكويت مدنيين لا علاقة لهم بالصراع الإيراني – العربي أو الشيعي – السنّي في العراق، فهذا النمط من القتل يعكس بؤس الحالة وأخطارها في الوقت نفسه.
رد فعل الدولة في الكويت بشخص الأمير الشيخ صباح الأحمد كانت سريعة وإنسانية، فقد ذهب الأمير إلى موقع التفجير بعد وقوعه مباشرة، كما تحركت الدولة لجعل الكارثة أمراً وطنياً يمس كل مواطن، وحولت العزاء إلى عزاء وطني في أكبر مسجد البلاد. لقد تبنت الدولة العزاء كما تبناه المجتمع المدني بتنوعه، ما ساهم بصورة كبيرة في هذا التوقيت الحساس في التخفيف من مشاعر الخوف وغياب الثقة. إن مشهد العزاء في المسجد الكبير كان مؤثراً في كل الأصعدة.
لكن السؤال الأكبر الذي سيواجه الكويت كما يواجه مجتمعات المنطقة: كيف نمنع وقوع أعمال شبيهة تصيب الأبرياء في المستقبل؟ فوجود أشخاص بين المنفذين عاشوا وولدوا في الكويت، بل ربما ولد آباؤهم وأجدادهم في ربوعها يثير التساؤلات. كما أن وجود مواطنين كويتيين بين المجموعة يثير تساؤلات أكبر. كل ما نعرفه عن وضع «البدون» على سبيل المثل، خصوصاً منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين ومنذ عام ١٩٩١، يساهم في الحالة العنفية. ليست المشكلة فقط في وضع «البدون»، بل أيضاً بفئات أخرى في الوسط القبلي تشعر بمشاعر الضعف والعزلة. فكل فئة تعاني من أوضاع محددة تنتج أكثر من رد فعل، بعضها متفائل وسلمي وبعضها عنيف ومتطرف. وهذا يعني أن اعتبار البعد الخارجي سبب الإرهاب لا يفسر كل الظاهرة ولا يساهم في إيجاد وقاية بعيدة الأمد منها. هناك قضايا محلية تتداخل مع الإقليمية لا بد من التعامل معها في البعد الإنساني والسياسي والاجتماعي وذلك قبل التفكير في الحلول السهلة كمناهج الكتب وحصص الدين.
فمناهج الدين هي نفسها التي أنبتت أجيالاً لا تؤمن بالعنف، وبالأساس كل من المسيحية والإسلام يحرضان في أماكن على العنف، لكن لديهما كذلك نصوص تدعو إلى السلم والتعايش. لهذا، يصعب تفسير العنف من خلال النصوص، بمقدار ما يمكن تفسيره بأنه نتاج مباشر لحالة اختناق سياسية ونتاج تغير في التوازنات، وإضعاف فئات وتداخل كل هذا مع سياسات الدول. فطالما توجد حروب طائفية وصراعات ضد أنظمة وديكتاتوريات ونزاعات تمتد لسنوات وعدوان إسرائيلي دموي، وأفراد وقبائل وطوائف تشعر بالعزل والاستضعاف سيكون العنف والإرهاب نتيجة طبيعية.
سبق لي أن تناولت في مقالات عدة قضايا الكرامة والإهانة والتعامل الذي يحقر الآخر ومدى خطورة انسداد وسائل التعبير السلمي بكل أنواعها بصفتها تدفع البعض، خصوصاً في الوسط الشبابي إلى العزلة واليأس والإحباط والبحث عن فكر يحض على العنف. اليعاقبة العلمانيون الثوريون مثلاً في فرنسا في زمن الثورة الفرنسية ومجموعات كرومويل البريطانية الدينية في زمن الثورة البريطانية لا تختلف كثيراً (مع اختلاف الزمن والشكل) عن «القاعدة» و «داعش». العنف الأعمى متشابه عبر الحضارات ومصدره قد يكون متشابهاً أيضاً كما أن علاجه متشابه. لهذا فقبل التفكير في قوانين ضد الإرهاب، لا بد من قوانين تواجه العنصرية والتمييز الذي يمارس بحق طوائف وفئات في العمل والتوظيف والصلاحيات والترقية وتوزيع القوة والتمثيل والحقوق والواجبات. أعتقد أن مشكلتنا في هذا المجال تفرض علينا أن نسأل أنفسنا كيف نساهم من دون قصد منا في نمو الغضب بين فئات لا نراها ولا نختلط بها بينما تعيش بيننا وتتكاثر وتتحول إلى غالبيات مفككة وضعيفة تبحث عن القوة والعنفوان.
إن رد فعل الدولة مهم لنا جميعاً، فهي التي تصنع الفارق بين الوقاية من الإرهاب أو تعميقه ونشره. فكثيراً ما تتسرع الدول أثناء الحرب على الإرهاب إلى الانقضاض على الحريات وحقوق التعبير والتظاهر السلمي والمعارضة. هذا التوجه الذي يتبعه الكثير من الدول في التعامل هو جزء كبير من المشكلة. فالعنف لا يأتي من المحطات الإعلامية ومن السجناء السياسيين والصحف النقدية والمعارضين السلميين أو من التواصل الاجتماعي والمتظاهرين، بل يأتي من مكان لا نراه ولا نشعر به. فالزرقاوي (المؤسس الأول لفكرة «الدولة الإسلامية») تعلم ما تعلم في مدرسة التطرف في السجن (وليس في وسائل الإعلام)، كما أن فكر سيد قطب الأكثر راديكالية صنع في السجون المصرية وليس في مدارس الحوار والحريات. لهذا يجب الحذر من الخلط بين مدرسة العنف ومدرسة التعبير مهما كانت نقديتها، فالأخطر على الاستقرار أن يعامل المعارض السلمي كالعنيف، لأن ذلك كما نلاحظ في سلسلة من الدول في الإقليم يصب في مصلحة مدرسة العنف وزيادة المؤمنين بها. إن البحث الآن عمّن يحمل فكراً «قاعدياً» أو «داعشياً» لن يفيد، بل الأفضل أن تخرج كل الأفكار إلى العلن في ظل حوار يتميز بالشفافية والصدق.
وعلينا أن ننتبه إلى أن أحد أهداف العنف والإرهاب هو العمل على دفع الدولة إلى التصادم مع فئات لم تتصادم معها حتى الآن، بل دفعها للتعدي على الحريات وإساءة معاملة كتاب وصحف ومحطات تلفزة وجمعيات وتيارات، ما يزيد من فرص بناء بيئة مفككة صالحة لنمو التطرف. التوسع في الإجراءات الأمنية سيصيب أبرياء ويقلل الرقابة على تجاوزات الأجهزة ويفتح الباب أمام درجة من الفساد، ما يساهم في مزيد من التطرف من الجهة الأخرى. وهذا يعني، كما تؤكد لنا الحالة العربية المحيطة: تبقى الدولة قوية وضعيفة في الوقت نفسه ويبقى الإرهاب بين التدمير والملاحقة بينما يدمر المجتمع ومستقبله في الوسط.
وسنجد أن الانتصار على الإرهاب غير ممكن بواسطة الدولة وحدها، وأن الدولة التي تعمل بمعزل عن الحراك السياسي والمعارضات السلمية لن تنتصر على الإرهاب في المدى المتوسط ولا في المدى البعيد. فلكي ينجح الإرهاب لا بد من فراغ سياسي ونفسي يتميز بتراجع مكانة النظام السياسي وخطابه الإعلامي وبتراجع أحزاب المعارضة السلمية وذلك ليتعزز الفراغ السياسي والنفسي. إن مواجهة مدرسة العنف تتطلب وجود مجتمع أكثر قوة وأحزاب وتيارات سياسية معارضة سلمية يعتمد عليها وحوار شفاف.
لهذا بالتحديد تجب إعادة التفكير في كيفية إعادة الحياة السياسية الكويتية إلى سابق عهدها مع التركيز على إعادة بناء الوسط السياسي الذي يجب أن يشمل كل الأطراف بما فيها المعارضة بتنوعها. فبسبب الصراع السياسي التي عم البلاد بين ٢٠١١ و٢٠١٣، تراجع التوازن والوسط السياسي وتراجعت قيمة المعارضة السلمية ونفوذها العفوي في الشارع السياسي، لكن تراجعها تحول إلى حالة إحباط، والإحباط يقود البعض إلى التطرف بينما يقود قطاعات من الشباب نحو الهجرة والانزواء. وكلما اهتز الوسط الشعبي، خصوصاً المعارض ذا المنحى السلمي وضعف وتفكك، جنحت فئات متطرفة تقع على الأطراف لاستغلال هذا الاهتزاز لتعظيم دورها. التفتت السياسي والتشظي ينذران ببروز أجنحة متطرفة أكثر تشدداً وتأثراً بالأجواء المحيطة وبالإقليم. لا بد من العودة إلى ثوابت السياسة الكويتية كما عرفت منذ الاستقلال وكما توازنت عبر المراحل الصعبة.
العاصفة العربية مستمرة، والعنف مستمر في الإقليم بجنون ومأزق السياسة نجده في كل دولة عربية لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية، وينتشر السلاح في العالم العربي كما ينتشر الهواء، والدول تسقط كما لم تسقط من قبل. لكن الكويت والسعودية وسلسلة من الدول في الإقليم التي عرفت بقدرتها على التعامل مع التوازنات لا زالت صامدة. ومن الضروري أن تحتمي هذه النظم بالشعب وبثقافة الحرية والإصلاح السياسي والشراكة مع الناس على كل المستويات. هذا لا يمنع ضرورة الحرص الأمني ورفع اليقظة ودور متميز للأمن، لكن العلاج السياسي جوهري، ومن دون هذا العلاج السياسي ستكون الحروب على الإرهاب قائمة بعد عقد وأكثر وسنفشل كما فشلت الولايات المتحدة من قبلنا. لتجفيف التطرف، لا بد من الاحتماء في الوسط العام مع ضرورة أن يكون هذا الوسط العام أكثر من النظام السياسي، بل يشمل بقوة التيارات المستقلة والشبابية والمعارضة في المجتمع في ظل ضمانات دستورية وحقوقية. ما وقع في الكويت يجب أن يدان على كل مستوى لأنه مس الحياة ودمر البراءة ونشر الموت وهدد أبسط حقوق المواطنين في الحياة، لكن ما حدث جرس إنذار كبير لا بد من التوقف عنده.