لم يبق إلا توجيه الاتهام إلى “بوركينا فاسو”، وهي إحدى أتعس وأفقر دول العالم، بأنها وراء تنظيم داعش! إذا كان اتهام دول مثل إيران أو الولايات المتحدة أمراً معقولاً مثلما تنشر أدبيات التواصل الاجتماعي اليوم، فلماذا لا يكون لصق اتهام خلق داعش إلى أي دولة نكرة في العالم أمراً معقولاً وممكناً، في فكر وثقافة اللا معقول.
ففي كل مرة يحدث أن ترتكب دولة داعش جريمة إرهابية موغلة في التوحش يسارع الكثيرون بسلامة طوية إلى عقدة التفسير التآمري للحدث، تدفعهم مشاعرهم وعواطفهم، التي ترفض الآخر إلى توجيه الاتهام لعدو جاهز في فكرهم، وعندها ترتاح نفوسهم وتطيب خواطرهم، بعد أن أزاحوا عن أنفسهم مشقة التفكير في تحميل ذواتنا وثقافتنا الطائفية عبء داعش وأشباه داعش.
تنظيم داعش لم ينزل من السماء، داعش نتاج طبيعي لثقافة طائفية متزمتة منغلقة، غذتها أنظمة حكم مستبدة متسلطة وجدت في الفرز الطائفي والعنصرى أفضل السبل لدوام الحكم، وداعش، أيضا إفراز طبيعي لتطور تاريخي تمر به المنطقة اليوم.
قبل داعش كان هناك تنظيم القاعدة، وقبل القاعدة، وهي السحر الذي انقلب على الساحر، كان المجاهدون الأفغان الذين قدموا خدماتهم الكبيرة في تقصير عمر الدولة السوفياتية، ومثلما كنا نشاهد تسابق “أهل الخير” في الثمانينيات للمساهمة في دعم المجاهدين بالمال والسلاح، أيضاً نشهد اليوم حفلات المساهمة بالمال والبشر للثورة السورية، هل هناك من سأل عن مصير هذا الدعم وكيف يمكن أن يتحول إلى جماعات طائفية مهووسة مثل تنظيم داعش وغير داعش، هنا، يمكن اعتبار الولايات المتحدة مسؤولة عن خلق داعش متى كانت هي ودول الخليج انتجوا بولادة قيصرية الأب والجد الروحيين لداعش، وهما القاعدة والأفغان العرب، وأيضاً الولايات المتحدة مسؤولة بتدخلها في العراق عام 2003 وإدارتها السيئة للاحتلال، حين تصورت أنها بالعصا السحرية يمكن أن تخلق دولة ديمقراطية، وتتجاوز تراكم طبقات تاريخية من الحكم الاستبدادي مع غياب كامل لمؤسسات المجتمع المدني، فانتهت الدولة العراقية إلى اللادولة، بقيام نظام المحاصصة والفرز الطائفيين، وكانت إدارة نوري المالكي بتهميش الطائفة السنية، وتجذر الفساد في الدولة هما البنزين الذي سكب على نيران الطائفية هناك.
بالنهج ذاته يمكن اعتبار الجمهورية الإيرانية أيضاً مسؤولة عن خلق داعش حين دعمت، بل فرضت حكومة المالكي، واستبعدت بصفقات سياسية أياد علاوي المعتدل، وهي أيضاً مسؤولة بتدخلها في مناطق عديدة من صراعات المنطقة، مثل سورية، وأججت، بالتالي، مشاعر السنة ضدها وضد الشيعة، وكأن هذا ما ينقصهم.
كلها أسباب وراء خلق وانتعاش جماعات داعش ومن على شاكلتهم، لكن يبقى السبب التاريخي المتمثل في الثقافة الدينية المتشددة، وغياب روح التجديد والإصلاح الدينيين على نحو ما حدث بأوروبا في القرون الماضية هو المسؤول الأول والأخير عن مأساة عالمنا اليوم، أما حصر المسؤولية في إيران وأميركا، فهي إجابة مريحة وسهلة؛ وأسهل منها أن نوجه الاتهام لدولة “بوركينا فاسو” على نحو ما كان يفعل المرحوم محمد مساعد الصالح حين كان يحاول التملص من رقيب وزارة الإعلام في كتاباته أيام الثمانينيات.