ما وقع بين دول مجلس التعاون في الأيام الأخيرة من سحب للسفراء فاجأ المراقبين وذلك لتناقضه مع أطروحات الوحدة كما تطورت في أواخر ٢٠١١. فالصورة قبل شهور قليلة كانت على النقيض: وحدة وتقارب واتفاقيات أمنية. إن حادثة سحب السفراء (سفراء الإمارات والمملكة العربية السعودية والبحرين) من قطر والتوتر السابق لها والناتج منها يعود ويؤكد بأن الوحدة الخليجية بعيدة عن التمنيات الشعبية كما هو حال الوحدة العربية الأوسع. فهناك، على رغم تشابه أنظمة الحكم، تناقضات سياسية وخلافات لم يجرِ التعامل معها بما يسمح للتنوع في السياسات الخارجية في ظل حوار مفتوح حول الخلافات. وهذا بالتحديد ما يبرز إلى سطح الحدث الطبيعة التقليدية وغير المتجددة للمجلس والتي حتى الآن لم تعتد على شفافية صنع القرار والمقدرة على التعامل مع سرعة التغيرات السياسية.
ووفق التجربة العربية القديمة والجديدة، فالوحدة من أعلى بإمكانها أن تأتي بسرعة ولكنها ستنتهي بسرعة كما بدأت بحكم أنها لم تصل إلى قواعد المجتمع الاقتصادية والحياتية والثقافية ولم تتحول إلى شيء أكبر وأعمق من البدايات الأمنية. وفي الاستقالات من الأجهزة الإعلامية القطرية لمواطنين سعوديين وإماراتيين ما يؤكد أن الوحدة ليست حدثاً اجتماعياً اقتصادياً بعيد المدى، بل إنها أسيرة الرؤى والسياسات الخارجية الآنية للبلدان المعنية، وهذا يثير ثانية وثالثة مدى هشاشتها بخاصة عندما لا تكون الأخطار مباشرة وواضحة.
فإذا كانت تجربة عبد الناصر الوحدوية مع سورية نموذجاً لما نقصد بالوحدة من الأعلى، فان تجربة أوروبا، على رغم مصاعبها وتناقضاتها، نموذج مختلف لوحدة تعظم من قيم الإنتاج والاقتصاد والانتقال والحقوق والحريات بين المواطنين. في الوحدة الأوروبية سياسات خارجية مختلفة وكثيراً ما تكون متناقضة تجاه العالم وتجاه روسيا وأميركا وتجاه قضايا جوهرية، لكن الاقتصاد والعمل والإنتاج والعلاقات بين الناس والشعوب تستمر وكأن شيئاً لم يكن. في هذا تهميش كبير لقيمة السياسة الخارجية وصانعيها وتركيز أكبر على قيمة الاقتصاد والحياة وحقوق المواطنين. فمن خلال الوحدة الأوروبية تحققت مكاسب كبيرة وواضحة للمواطن الأوروبي، لدرجة أن شعوباً لم تشملها كالشعب الأوكراني انتفض ضد حكومته ورئيسه رغبة بالاتحاد الأوروبي، وذلك لما في هذا الاتحاد من قيمة جوهرها المواطن. أما في الصيغ العربية، ففي معظم الأحيان المطلوب من المواطن التنازل ليقبل على صيغة اتحاد يفترض التنازل عن مكاسب وحريات وحقوق كما هو مطروح في الاتفاقية الأمنية الأخيرة.
إن فكرة الوحدة في الأسلوب العربي ما زالت خالية من الأنسنة ومن مركزية المواطن وحقوقه وتعظيم مكانته، وهي ما زالت تعيش في وهم وفخ الجغرافيا والسياسة الخارجية الموقتة والمتحولة. وعلى رغم حدة ما وقع مؤخراً من المبكر الحكم على مجلس التعاون بالفشل، فحلم التداخل الخليجي يحمل بعداً شعبياً يتجاوز الطابع الأمني والسياسي، لكن هذا البعد لم يتجسد بعد.
إن ما وقع بين دول مجلس التعاون مرتبط بما يقع حولنا منذ عام ٢٠١١، فالحرب الباردة الساخنة وأثر الثورات وصل إلى منطقة الخليج. إن عالمنا العربي يمر بواحدة من أكبر مراحل التحول في تاريخه حيث تقع ثورات وعنف، وفي نفس الوقت هناك سعي لدى بعض النخب العربية بخاصة في مصر للعودة إلى الماضي في ظل ولادة عسيرة لما يمكن أن يتكون منه الجديد. هذا يجعلنا نتنبأ بأن التحولات الإقليمية ستستمر مما سيدفع إلى ردود أفعال لم تعهدها العلاقات الخليجية – الخليجية في السابق. إن استمرار هذه المرحلة الانتقالية الطويلة التي بدأت بالثورات العربية سوف يعني بقاء الملفات الساخنة في سورية وفي مصر وليبيا واليمن والبحرين وغيرها (إيران، روسيا) مفتوحة وبلا أفق واضح. وهذا سيعني في نفس الوقت أن مواقف متناقضة ستنشأ بين دول المجلس وأن السياسات القطرية والسعودية سوف تكون على طرفي نقيض. لهذا من الأفضل تقبل هذا الاختلاف والتعايش معه، وإلا ستكون الخسائر الناتجة منه مدمرة لكل الأطراف من كل الاتجاهات. يكفي أن نفكر بأثر الخلاف الخليجي – الخليجي على الثورة السورية وتضحيات الشعب السوري مثلاً!
كان الأمل معقوداً، إلى حين انفجار مظاهر الخلاف منذ أيام، على المقدرة على إدامة مرحلة التعايش الخليجية – الخليجية بين التناقضات المرتبطة بالثورات ونتائجها والتي تنعكس بطبيعة الحال على الرؤى المختلفة لكل من قطر والمملكة العربية السعودية بل وحتى الكويت وعمان والإمارات. إن الأمل ما زال معقوداً على توفير شروط الحد الأدنى (صيغة الحد الأدنى الناتجة من حوار صادق) وذلك لوضع إطار مرن لأثر اختلاف الرؤى على الملفات الساخنة وانعكاس كل هذا في مجال الإعلام. لكن هذا الاتفاق يجب أن لا يلغي اختلاف الرؤى والسياسات، فهذا البعد الخلافي يجب أن يكون عنصر قوة لا عنصر ضعف لدول مجلس التعاون.
لهذا من الصعب تصور اتفاق الحد الأدنى بلا تقبل وجود مساحة واضحة لتنوع التوجهات، فلن يضر النقد دولاً كبيرة أو صغيرة، ومن هو الذي لا يواجه نقداً اليوم في هذا العالم الذي يقوم أساساً على توجيه سهام النقد لكل السياسات. كما أن من الضروري الاتفاق على دفع مصر للتركيز على حقوق الإنسان ولإعادة هيكلة أجهزتها الأمنية التي تخلق جروحاً تؤدي إلى عدم الاستقرار وتدفع للتطرف بين جماعات مختلفة. وهذا يعني أن من مصلحة دول الخليج، حرصاً على الأمن القومي العربي والمصري، حث المصريين على انتقال حقيقي نحو حريات ونحو بنيان اقتصادي حديث وتنموي عوضاً عن السعي لاستعادة سلطة الجيش وشكل النظام القديم الذي سيفشل حتماً في مواجهة مشكلات مصر المتراكمة. هناك إذن رؤى مختلفة في منطقة الخليج للحدث المصري وذلك لأن الواقع مختلف ونتائجه ستكون مختلفة عن مقدماته، وهذا لا يخرج عن كونه أمراً طبيعياً يجب التعامل معه بمرونة إلى أن تنجلي الأوضاع الراهنة وتتضح صورتها وتحولاتها.
ولنفترض (نظرياً) مثلاً أنه في زمن الحرب العراقية الإيرانية وقفت دولة خليجية بقوة ضد صدام حسين، بل ساعدت معارضين له وأيدت إيران، هل كانت ستتعرض لضغوط كبيرة من دول مجلس التعاون بتهمة عدم مساعدة أمن البوابة الشرقية؟ وماذا كانت ستقول نفس الدول عشية غزو ١٩٩٠ عندما اجتاح صدام الكويت؟ ولو طبقنا نفس المثل على الوضع المصري الراهن، ماذا سنكتشف بعد عدة سنوات أو بعد شهور؟ أضرب هذا المثل لتأكيد أمر رئيسي: آنية السياسة وسرعة تبدل أحوالها وللتأكيد على مدى خطورة التركيز على وحدة الصف من دون أدنى التفات للتنوع والاختلافات الجوهرية في الرؤى. ستبقى الوساطة الكويتية عنصراً هاماً في المشهد الراهن والقادم وصولاً إلى مؤتمر القمة العربي في ٢٥ من هذا الشهر.