قبل نحو ثمانية أعوام، كانت بداية التعرف إلى وسائل “السوشيال ميديا” الجديدة. كانت هناك حالة من التناغم بين الناس في مختلف البلدان في العالم، ومن بين ذلك الشرق الأوسط. حتى إن الأحاديث وإن تنوعت بين السياسة والإعلام والاقتصاد، إلا أنها تنتهي بين النخب للحديث عن يومياتنا الطبيعية. لم تكن حالة التشنج واضحة بين الناس. كانت الاختلافات أقل تعقيدا. وأذكر أنني كتبت يومها عن تعرضي للإنفلونزا، في الوقت ذاته غرد الزميل محمد الرطيان عن الأمر ذاته. يومها كتب جمال خاشقجي تغريدة طريفة عن أخته، التي لم تكن تعرف بـ “تويتر” حينها، فردت عليه حين قال عن مرض الزملاء ومرضه بالإنفلونزا بجملة تشبه: ابتعد عن مصادر العدوى. من مر بهذه المرحلة منا، يدرك الآن الفروق جيدا في مدى تصاعد مستوى الانقسام الفكري والاستقطاب السياسي والأيديولوجي الذي تمر به المجتمعات والمنطقة أجمع. أذكر خاشقجي لأنه أحد رموز المرحلة وحالة الاستقطاب هذه.
قد يقول بعضنا بفشل الربيع العربي، لكن لا أحد يستطيع حصر ما خلفه هذا الطوفان من انقسامات واستقطابات حادة في الدولة الواحدة نفسها، فضلا عن بقية الشعوب في الدول الأخرى. قابلت خاشقجي في مناسبة في الرياض أخيرا، وقال عن لقاء بعض النخب الذين التقوا ولي ولي العهد: “كنا مجموعة من كل فئة وتيار قد تستغربين كيف تم جمعنا، وبعضنا عامل “بلوك” للآخر في “تويتر” ما قاله خاشقجي. كان تعبيرا عميقا يشرح باختصار الانقسامات الواضحة المستجدة. لم تكن انقسامات التيارات التقليدية، بل انقسامات حول أحداث المنطقة وتبعاتها. في الحقيقة، الربيع العربي أثر ليس في المنطقة فحسب بل في العالم. من يحصر الثورات والمظاهرات السياسية والاقتصادية التي مر بها العالم إثر ثورات العرب؟ في روسيا تظاهر الروس متأثرين بالثورتين التونسية والمصرية، مطالبين بتغيير الحكومة بسبب تردي الاقتصاد. كذلك سلسلة طويلة من المظاهرات في الولايات المتحدة من بينها “احتلوا وول ستريت الشهيرة”، وفي كندا والأرجنتين وبوليفيا والبرازيل والمكسيك وفيجي وأرمينيا وأذربيجان والتبت وكردستان والمالديف وماليزيا ومينمار وكوريا الشمالية وفيتنام والإكوادور والصين وإيران وتركيا وغيرها. وجميعها بتأثر مباشر من ثورات الربيع العربي، وكما لو أن عدوى ثورة الجماهير مثل قطع الدومينو. لذا فتأثر العالم بعضه ببعض من المنطقة أمر حاصل.
وقد اطلعت أخيرا على خريطة لدراسة من معهد بيو للأبحاث في واشنطن، وهي توضح حالة الاستقطاب السياسي داخل المجتمع الأمريكي منذ 1994 حتى نهاية 2015. وقد وصل الاستقطاب السياسي بين الديمقراطيين والجمهوريين، وفي الكونجرس مداه الأبعد خلال السنوات الأخيرة متزامنا مع ازدهار “السوشيال ميديا”، مقارنة بانخفاضه الواضح في العقد ما قبل الأخير. هل يمكن القول إن أحداث الإقليم جزء من الاستقطاب في أمريكا؟ لم لا؟ فصراعات الجمهوريين والديمقراطيين السياسية جزء كبير منها حول تعاطي الولايات المتحدة مع الأحداث هنا، السعودية، إيران، العراق، سورية، ليبيا، اليمن، مصر.. إلخ. حتى إن تعاطي وتفاعل الناخبين مع كلينتون وترامب يدور بشكل كبير حول هذا الإقليم. هذا الاستقطاب الحاد خدم صعود ترامب، بل أسس لظاهرة ترامب أيضا لسببين: تراجع الاقتصاد وللمنطقة طبعا دورها، وبسبب الفوضى السياسية في المنطقة وتأثيرها في الأمن القومي الأمريكي، ومن ذلك الإرهاب وصعود الإسلاموفوبيا.
ولا شك أن الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي الحالي داخل وبين المجتمعات العربية محطة توقف تاريخية. وليس صعود “الإخوان” المؤقت وحده ما أسس لهذه المرحلة فحسب، فمشروع الهيمنة والثورة الإيرانية أيضا كان سببا مباشرا في حالة استقطاب حادة في المنطقة. واستخدمت ورقة الطائفية في هذا الاستقطاب لتفعيله ليس من خلال التصنيف الطائفي والأيديولوجي فقط، بل السياسي أيضا. فأفراد الطائفة الواحدة قد ينقسمون سياسيا وبشكل أكثر حدة مثلما حدث حين أضرم شيعة البصرة النار في قنصلية إيران احتجاجا على الاحتلال ودعم الإرهاب، مقابل ميليشيات شيعية مريدة لإيران. حتى إيران نفسها منقسمة بشكل حاد داخليا بين من يرجو الاعتدال ومن يرجو التشدد في القومية الفارسية. وهكذا يتأثر مفهوم الوطنية بالاستقطاب في كل دولة حين ينتقل الصراع من الشكل السياسي والاجتماعي داخل الهوية الوطنية الواحدة إلى صراع بين وطنيات مغايرة في رؤاها السياسية تماما. حينها تتحول الألفة والقواسم المشتركة إلى خارج السياق الوطني. ولا شك أن المفهوم الوطني يمرض حين يواجه بأفكار حدية من خارج حدوده.
القضية أن أقسى الاستقطاب السياسي والأيديولوجي هو الذي لا تحكمه القناعات بقدر ما يحكمه نظام الولاءات السياسية والتنظيمية. والأفراد قد لا يعون حيثيات بعض القضايا المفردة حين يتجهون للاصطفاف والإقصاء في المعارك الصغيرة والكبيرة. وذلك في رهان على غياب الآخر الذي يسعى الآخر في المقابل على شطبه تماما. العالم يمر بتحولات فكرية قد يكون مصدرها هذه المنطقة بكل ما فيها من تشعبات وحرائق.