كان من المأمول أن تتمكن دول الخليج باستخدام مصداتها المالية التي كونتها في صورة احتياطيات في أوقات ارتفاع أسعار النفط، أن تواجه عجوزاتها المالية براحة تامة، دون أن تلجأ إلى إجراءات غير اعتيادية تؤدي إلى تغيير هيكلي في طبيعة إيرادات الدولة ومصادرها المختلفة.
غير أن هذه الآمال تبخرت مع استمرار انخفاض أسعار النفط عند مستويات تقل عن الحد الأدنى اللازم لتوازن ميزانيات كل دول الخليج، وأخذ العجز المالي في الاتساع عاما بعد آخر على النحو الذي أصبح يهدد بذوبان الاحتياطيات المالية لدول الخليج إذا لم تتخذ خطوات جادة للإصلاح المالي.
لقد حاولت دول الخليج في البداية الاعتماد على احتياطياتها، والاقتراض من المصادر المختلفة، لكن ارتفاع العجز المالي أملى على هذه الدول اللجوء إلى إجراءات أخرى مساندة أهمها تعديل أسعار بعض السلع والرسوم لتخفيض حجم الدعومات التي تقدمها للمستهلكين، بصفة خاصة الوقود والكهرباء والماء. غير أن حجم الوفورات التي تحققت من هذه الإجراءات لم يكن جوهريا على النحو الذي يساعد على خفض العجز، وأصبح من الواضح أن الأوضاع المالية لهذه الدول غير مستدامة، وأنها في حاجة إلى تأمين مصادر دائمة تتسم بالاستقرار للإيرادات، حتى تضمن استقرارا أكبر لإيراداتها، وتجنب خطط الإنفاق العام لها مخاطر التقلب السريع مع تقلب أسعار النفط. اليوم وبعد مرور أكثر من سنتين على صدمة انخفاض أسعار النفط، لا يبدو أن هناك تحسنا في أوضاع السوق على النحو الذي يضمن التحول في اتجاه العجز، لذلك بدأ الحديث بشكل جدي عن إدخال الضرائب كأداة من أدوات الإيرادات في دول مجلس التعاون.
الضرائب بشكل عام تنقسم إلى قسمين؛ الضرائب المباشرة، وهي التي تفرض بشكل مباشر على المكلف بدفع الضريبة مثل ضرائب الدخل، والضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات أو ضريبة الاستهلاك أو ضريبة القيمة المضافة، التي تفرض على بعض أشكال التصرف في الدخل، فعندما يشتري المستهلك سلعة معينة أو خدمة معينة فإنه يدفع ضريبة مبيعات أو استهلاك لهذه السلعة.
الإطار المقترح للضرائب في دول مجلس التعاون هو مزيج من هذه الأنواع من الضرائب، والنوع الأول المقترح هو ضريبة على استهلاك السلع الفاخرة أو الكمالية، وهي السلع غالية الثمن التي غالبا ما يشتريها المستهلك بهدف التفاخر أو إبراز ارتفاع مستوى دخله أو مكانته في المجتمع. مشكلة هذا النوع من الاستهلاك أنه يشيع في المجتمع ما يسمى بدافع المحاكاة أو التقليد، وهو إقدام الأفراد ذوي الدخول الأقل على تقليد سلوك مرتفعي الدخول بشراء هذه السلع غالية الثمن، وهو ما يجر الكثير من المستهلكين إلى فخ الديون أو انخفاض مستويات ادخارهم. مثل هذا السلوك الاستهلاكي الضار، في حاجة إلى السيطرة عليه، من خلال فرض ضرائب مرتفعة تمنع مثل هذا النوع من الاستهلاك. بالطبع الهدف من مثل هذه الضريبة متعدد، فهي تؤدي إلى جباية إيرادات للدولة وفي الوقت ذاته تعمل على تقليل الواردات من مثل هذه السلع أو تقليل عمليات إنتاجها محليا ومن ثم توجيه الموارد نحو أوجه أكثر فائدة للمجتمع.
النوع الثاني من الضرائب المؤكد تطبيقه خلال العامين القادمين هو ضريبة القيمة المضافة، وهي إحدى أنواع ضرائب الاستهلاك، لأن الذي يتحملها في النهاية هو المستهلك، على الرغم من أن الذي يقوم بدفعها هو المنتج أو الموزع للسلعة. وتفرض ضريبة القيمة المضافة على كل مرحلة من مراحل إنتاج السلعة أو الخدمة، ففي كل مرحلة من مراحل الإنتاج ترتفع قيمة السلعة، وتفرض الضريبة على الزيادة في قيمة السلعة “القيمة المضافة للسلعة”، لذلك تسمى ضريبة القيمة المضافة. وبالتالي مع بدء فرض هذه الضريبة يتوقع أن ترتفع أسعار السلع والخدمات التي تفرض عليها بمعدل الضريبة نفسه أو أقل قليلا يعتمد ذلك على مرونة الطلب السعرية بشكل أساس.
ونظرا لأن ضريبة القيمة المضافة تفرض على السلعة في نقاط متعددة، فإن عملية حسابها وجمعها تتطلب جهازا ضريبيا كفؤا وفعالا، لذلك لا أتوقع نجاح هذه الضريبة في تكوين حصيلة ضريبية كافية، على الأقل في مراحل التطبيق الأولى. من جانب آخر فقد تأكد تقريبا، أو على الأقل حتى هذه اللحظة، أن معدل الضريبة على القيمة المضافة لن يزيد على 5 في المائة من القيمة المضافة في كل مرحلة إنتاجية للسلع، وهو معدل منخفض للغاية للضريبة، الأمر الذي يعني أن الحصيلة ستكون منخفضة، وقد تكتشف دول المجلس أن الإيراد من ضريبة القيمة المضافة لا يبرر المجهود الذي سيبذل في تحصيلها، وذلك على العكس من الكثير من دول العالم، حيث تشكل حصيلة ضريبة القيمة المضافة أحد أهم مصادر الإيراد للدولة. لذلك أقترح أن تعيد دول المجلس النظر في معدل الضريبة ومضاعفته حتى تكون الحصيلة منها وافرة.
النوع الثالث من الضرائب المتوقع أن يتم إدخاله في دول المجلس هو ضريبة الأعمال، وهي نوع من الضرائب المباشرة التي تفرض على أرباح المنتجين أو الموزعين للسلع والخدمات، وقد أعلنت الكويت ضمن برنامجها للإصلاح المالي والاقتصادي في الأجل المتوسط عن فرض هذه الضريبة بمعدل 10 في المائة. لكن من المؤكد أن تمرير مثل هذه الضريبة لن يكون سهلا، وسيمارس المنتجون والتجار كل ما لديهم من قوى للضغط للحيلولة دون تمرير قانون هذه الضريبة.
غير أن هذه الضريبة على قطاع الأعمال مستحقة، لأن الدولة تقدم الكثير من الدعم والخدمات لشركات الأعمال دون أن تسهم هذه الشركات في تكلفة الخدمات العامة التي تقدمها الدولة. كما أن عدم فرضها يسبب إشكالية أساسية، على الأقل في الكويت، حيث تفرض ضرائب الأرباح على الشركات الأجنبية فقط، ولا تفرض على الشركات الوطنية “سوى بمعدلات ضئيلة جدا”، وهو ما يؤدي إلى نوع من التمييز الضريبي يجعل فرص التعاون الدولي في مجال الضرائب محدودا حتى يتم إصلاح هيكل الضريبة.
لقد أصبح إدخال الضرائب بأشكالها المختلفة في دول الخليج في الوقت الحالي ضرورة لمواجهة عدم استقرار إيرادات الحكومة وتنويع مصادر دخلها والحد من الاعتماد المكثف للموازنات العامة لهذه الدول على النفط، وهو من أهم خطوات الإصلاح المالي في دول الخليج.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟