بقدر ما يتعمق الوعي العام بمفهوم العدل وحكم القانون نربح ونطمئن لمستقبل حرياتنا وحقوقنا في ضمان العدل والمساواة، وبقدر ما نميل لأهوائنا ونزعاتنا الذاتية سنخسر آخر الأمر ذلك القدر الضئيل المتبقي من حرياتنا وكرامتنا لحساب الاستبداد السلطوي والتفرد في القرار.
المثل الشعبي القائل: “أُكلت يوم أكل الثور الأبيض” نكرره دائماً لدرجة السأم والملل، علنا نستوعب معانيه وأبعاده، ونحبط حين نجدد الردود الفاترة واللامبالاة تجاهه، ذلك المثل يدعونا ببساطة إلى ترك ازدواجية المواقف وانحيازنا لموقف اجتماعي أو سياسي معين، لأن هذا أو ذاك يوافق رؤيتنا وأخلاقنا الخاصة على حساب التجريد القانوني وحكم المؤسسات، وبالتالي على حساب المساواة والعدل في تطبيق حكم القانون.
قبل أيام كتبت في “تويتر”، رافضاً ما نقلته الأخبار عن قيام ضابط شرطة بحلاقة شعر ثلاثة شباب على “الزيرو”، لأنهم كانوا يتشبهون بالنساء ويتسكعون في أحد المولات التجارية، يشتهي الكثيرون أن يطلقوا لقب “جنوس، منحرفين، جنس ثالث”، وغير ذلك من الألقاب التي تدين هؤلاء وتنفي وجودهم الإنساني وتعاملهم بأقل من معاملة البهائم، وليس هذا بأمر جديد أو غريب على ثقافة التعالي المتعصبة، تلقيت ردوداً غاضبة على التغريدة، وتؤيد ما قام به ضابط الشرطة الذي اختزل ببدلته الرسمية دور السلطات الثلاث في وقت واحد، فضبط وشرع وعاقب المتشبهين الثلاثة.
أيضاً في وقت لاحق نقلت الصحف خبراً عن اللواء الجراح، مدير الجنسية والجوازات، يهدد ويحذر الذين تقاعسوا عن تجديد جوازات السفر بأن إدارته، وكأنه قد ورثها عن أسلافه، ستعمل “بلوك وستسحب المدنية منهم”، وليس هذا بأمر جديد عليه، فهو عادة يصرح وكأن الدولة مزرعة خاصة به، ومن يعمل بها هم خدم يعملون لحسابه.
انتقدت بـ “تويتر” مثل ذلك التصريح اللامسؤول، والذي أيضاً يتولى فيه ضابط شرطة تقمص شخصية المشرع والقاضي والمنفذ، هنا الحكم لا يختلف في حالة الجراح عن زميله الذي قام بـ “تقريع” رؤوس الشباب دون نص تشريعي يسمح لأي منهما أو لغيرهما بمثل ذلك، لكن ردود الفعل في مواقع التواصل الاجتماعي هنا في حالة الجراح كانت مختلفة، فهي تدين تصريح الجراح، وتستغرب من عشوائيته، اللامقبول هو أن الأصوات التي دانت تصريح الجراح هي ذاتها التي باركت فعل ضابط “تقريع” رؤوس المثليين، فهي تستهزئ من تصريح الجراح من ناحية، وتقول “برافو… زين يسوي فيهم” للضابط الآخر الذي “قرع” رؤوس المثليين من ناحية أخرى!
هي قضية واحدة في موضوعها عن الاستبداد لدى السلطة التنفيذية (الداخلية)، وانتهاك حقوق الإنسان والتصرف دون غطاء تشريعي في الحالتين، لكن الحكم الشعبي في ردود الفعل عن الموضوع اتسم بازدواجية الفهم القانوني، هي ازدواجية نابعة من تغليب الثقافة الشعبية باحتقار المختلف والغير، وتغليب عشوائية الموروث الثقافي على النص التشريعي، مهما اختلفنا أو اتفقنا على مضامين هذا النص أو ذاك.
كذلك كان الصمت واللامبالاة لممارسة حلاق رؤوس المثليين عند الكثيرين من “التقدميين” ليبراليين أو غيرهم، وحياؤهم أو مجاملتهم للشعبوية المحافظة التي باركت “التقريع”، وعدم اكتراثهم يخبرنا بحقيقة العوار الكبير لدينا في هضم مبادئ حقوق الإنسان وحكم الشرعية، كي ننتهي آخر الأمر بأن قضيتنا ليست في مجرد سلطة تستبد فقط، وإنما في أغلبية مجتمع مازال أهله بعيدين عن فكرة الحريات، لنقل أخيراً إن المجتمعات التي تقوم على التحقير والاستهانة بأفرادها محكوم عليها بالإفلاس في النهاية.