منذ أن كنت صغيراً، كانت الأناشيد تشدني، ببساطتها ومثاليتها وتناسق نظمها واتزانها، ورقة وعذوبة معانيها… تلك الأناشيد التي كنا نحفظها في المدرسة، أو التي كنا نبثها عبر الإذاعة المدرسية، بوصفي كنت عضواً في جماعتها، ولقد كانت كلمات هذه الأناشيد نافعة جميلة، وكان صداها يعمق في النفس المشاعر الفاضلة، من الرشد والخير والاستقامة.
وتطورت رحلة النشيد، واختلف تأثيره ودوره في المجتمع، ثم كانت النقلة من خلال الأناشيد الموجهة للأطفال، وتلك الموجهة للأعراس، خصوصاً مع انتشار الوعي الديني لدى العامة، وانتشار الفتاوى المحرمة للغناء، ولا سيما الماجن منه، ما أفسح في المجال لتلك الأناشيد لكي تنتشر وتلفت الانتباه، وأحس الناس، ربما للمرة الأولى، كيف يمكن للأنشودة الهادفة أن تريحهم وتطربهم؟
وتختلف الأناشيد عن الغناء، فأنت تحفظها وتظل معك، خصوصاً تلك التي نقشت في صفحات الذاكرة في مرحلة الطفولة، أما الأخير فإنك تدندن عليه، ثم ترميه في سلة الذكريات وتنساه… ولأن البنية التحتية والميزانيات المرصودة وشركات الإنتاج المتخصصة في الأغاني أكبر وأكثر بكثير من تلك التي تخصصت في الأناشيد، ربما نتيجة عوامل العرض والطلب؛ فإن ذلك أثر في انتشار كل منهما. وأينما كانت القوة المالية، فمن الطبيعي أن يتبعها المبدعون والفنانون، طبعاً مع عدم إغفال القيمة الفنية للعمل.
وعلى الرغم من اختلاف النشيد عن الغناء من الناحية الفنية، فإنني وجدت – من خلال متابعتي الشخصية – أمثلة عدة لاقتباس لحن أغنية، واستخدامه في النشيد، فيصبح النشيد كأنه أغنية عُدِّلت كلماتُها لتتوافق وذوق جمهور الأنشودة الإسلامية. غير أنه من المستغرب جدا أن يتجه الاقتباس اتجاهاً عكسياً، بمعنى أن يحدث أن يُقتبَس لحن الأغنية من لحن نشيدة… ولكن يمكننا القول: ربما يحدث هذا الأمر لجودة مكونات الفن الإسلامي والتزامه معايير أكثر ملاءمة لمجتمعاتنا من تلك التي تلتزم بها الأغنية العربية في هذه الأيام.
في الحقيقة، لقد أنشأ الفن جسورا بين الفرقاء في الفكر، فالأغنية تمثل فكرا تحرريا لا يؤمن بالقيود، بينما النشيد عادة ما تجده ملتزما الذوق المحافظ، ومقيداً بمفاهيم شرعية تحد من تمرده. ولكن حين يحدث هذا التلاقح، أو الاقتباس، بين اللحن أو الكلمات أو من المغني نفسه، فإن ذلك يشعرك بأن رسالة الفن جامعة، وبأن الفنان، منشداً كان أو مغنياً، هو رجل سلام وتعايش من الطراز الأول.
وهنا أريد أن أقدم بين يدي القارئ الكريم بعض الأمثلة التي استطعت حصرها، والتي تعد دليلاً على تلاقح الفنون، حتى المختلفة منها في المنهج، وذلك لأثبت أن التلاقي موجود: قدم المطرب المغربي سعد المجرد أغنية «أنتي باغية واحد»، ولحن هذه الأغنية مقتبس من نشيدة إسلامية شهيرة هي «النصر توالى»، والتي تم تأليفها وتلحينها هنا في الكويت – وتحديدا في جامعة الكويت، في أثناء الانتخابات الطلابية في نهاية التسعينات، وهي من تأليف وألحان الشاعر الدكتور علي الجعفري، ولم يسلم النشيد الأصلي من التغييرات الجذرية في كلمات الشاعر، في أكثر من ميدان وخصوصاً في الانتخابات الطلابية في البحرين والأردن والمغرب، إلا أن اللحن لم يتغير، ولعل هذا ما يفسر منشأ اقتباس الغناء المغربي من النشيد المشرقي.
واقتباسات الألحان في شكل عام لم تقتصر على المجرد، بل إن «جارة القمر»، المطربة اللبنانية الشهيرة فيروز، اقتبست لحن أغنية «بنت الشلبية» من أغنية هندية أُذيعت في الستينات، كما اقتبست فنانة تركية اللحن نفسه لأغنيتها، والأمر نفسه حدث مع المطرب المصري عمرو دياب والفنان الجزائري الشاب خالد وغيرهما من الفنانين العرب الذين انتشرت ألحانهم، واقتبسوا ألحانا من الفن العالمي والعكس.
هذا التبادل الثقافي لا أعرف كيف يراه النقاد، هل يرون أنه سرقة أم هو استثمار لنجاح عمل ما واستغلال انتشاره وشهرته؟
إن اقتباس أغنية من أغنية لا أراه بالأمر الجديد، لكن ما شدني هو الاقتباس المباشر من الأناشيد الإسلامية، ما يثبت أن النشيد الإسلامي فن بمعنى الكلمة، يستحق الدعم، والتوثيق، والرعاية من المؤسسات الرسمية لتنميته وتوسيع دائرة انتشاره، لما فيه من فوائد للشباب، وتصحيح القيم وإصلاح النفوس والتكامل لتشكيل هوية المسلم… فلا تكاد ترى طفلاً يتغنى به إلا ويتألق بابتسامته، ولا فتاة إلا وتتسامى في نقائها.
إن اختلافاتنا الفكرية، أو الثقافية، التي بنت أسواراً بين ما يسمى «الإسلامي» و«غير الإسلامي»، كسرها الفن والإبداع، ووضع بين يدي الإنسان كل هذا الجمال والمعنى والألحان… سواء كان من أغنية، أو من نشيد!