مع شديد الأسف، لايزال الكثير من الناس يعتقدون أن الممارسات الطائفية في المجتمعات العربية والإسلامية تأتي في «سياق طبيعي تتسم به المجتمعات المتخلفة»، وهذه النقطة صحيحة إلى حد ما، بيد أن اعتبار المد الإعلامي الطائفي في الأمة، بكل اندفاعاته التدميرية «سياقاً طبيعياً»، فهنا تتبدى الخطورة الجسيمة.
عبر مقالات كثيرة ومشاركات في ملتقيات ومنتديات، طرحت كما طرح غيري ما يمكن أن يمثل استغراباً لا يجد إجابة من المسئولين – وخصوصاً المسئولين عن الشأن الديني والإعلامي في الخليج العربي – وهو قائم على استهجان استمرار الخطاب الإعلامي الطائفي الخبيث في الكثير من الأجهزة الصحافية والإعلامية، مع أنك لا تجد مسئولاً إلا ويكرر ويحذر من مخاطر الطائفية ومن تأثيراتها المدمرة على السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، ومع أن هناك الكثير من الدول أصدرت قوانين تناهض الممارسات الطائفية ونشر الكراهية المذهبية وازدراء الأديان، لكنها مع شديد الأسف، تبقى حبراً على ورق، ولا أدل على ذلك، من الهجوم المذهل والصراع الدامي في عالم افتراضي كعالم الإعلام الإلكتروني، ولاسيما في المجتمع الخليجي حيث منابر التحريض والطائفية «تأخذ راحتها»، وحيث، على سبيل المثال، يتحول مقطع فكاهي على «اليوتيوب» إلى صراع بين السنة والشيعة في التعليقات بين تكفير وشتائم وانتهاك أعراض وتهديد والكل يدعي أنه المؤمن الموحد الذي ضمن جنان الخلد والفردوس الأعلى.
لماذا لا نرى تحركاً خليجياً حقيقياً على مستوى التربية والتعليم والشئون الدينية والإعلام والبرامج الإعلامية والأسرية لإزاحة سحابة السواد الطائفية والبدء في محاولة، وإن كانت صعبة وتتطلب سنوات من العمل، لاستبدال الخطاب الطائفي الكريه بخطاب وطني إنساني يحترم حق الآخر في اعتناق الدين والمذهب والمنهج الفكري؟ بل، لماذا تفشل كل محاولة تتبناها (المجموعات الطيبة إن جاز لنا التعبير) للتصدي للممارسات الطائفية حتى يصبح أولئك الطيبون وكأنهم مجرمون؟ هنا، يمكن أن نتأمل في عبارة شهيرة قالها عالم الاجتماعي العراقي الشهير المرحوم علي حسين الوردي: «طائفيون لكنهم بلا دين»، في إشارة إلى تجار الطائفية من قادة المنابر الدينية والإعلامية بل ومن أصحاب النفوذ والكراسي ومن الأثرياء الذين يقومون ويدعمون كل الأفعال التي تنشر البغضاء وتوقد نار الأحقاد والكراهية بين أبناء المجتمع، فهؤلاء بالتأكيد لا علاقة لهم بالدين! ومن المؤسف أن يتبعهم من يفترض فيهم الوعي والإدراك من المستويات المتعلمة والمثقفة، فهم بذلك ينجرفون معهم في ترسيخ عوامل التفتيت وانقسام المجتمعات لتنتشر جراثيم الأمراض الاجتماعية، حتى تصل الأمور إلى فقدان القدرة على التفريق بين المواطنة والطائفية.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أن محاربة الطائفية لا تعني محاربة «فعل طائفة» و «غض النظر عن طائفة أخرى»، أو تجريم ومعاقبة «طائفي من هذا المذهب» و «التهاون مع طائفي من مذهب آخر»، بل حتى حينما نطالب بالضرب «بيد من حديد» على كل طائفي، فهذا يلزم الجميع، بما فيهم الحكومة والشعب، يلزم بقبول تطبيق القوانين المجرمة للطائفية حتى على أنفسنا، إن كنا نمارس هذا الفعل، وكما يقول بعض الباحثين، فإن الطائفية تختلف جذرياً عن الطائفة، ذلك لأن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث متناقل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، اختلط فيها ما هو صحيح ومنفتح، بما هو خاطئ وانعزالي في بعض الأحيان، لكنها تكوين أصيل وموجود وتطور طبيعي، وليس أمراً مصطنعاً طارئاً، بينما الطائفية هي توجّه سياسي يسعى إلى امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو إثبات تميزها عن الطوائف الأخرى.. هنا، يغيب الوطن ومعاني المواطنة، وتتسيد الطائفية.
حسناً، إذا نظرنا إلى حولنا في الإقليم، فإن النار الطائفية المشتعلة تتصاعد أكبر مما كنا نتوقع، لكن، ما شأن المجتمع الخليجي، ولنحدد المجتمع البحريني في أن ينزلق في مهاويها؟ نحن في أمس الحاجة للبدء بإزالة كل شوائب الطائفية وممارساتها ومخاطرها، بدءاً من الدولة، مروراً بمنظمات المجتمع المدني والجمعيات، شمولاً بكل أفراد المجتمع، ولعلنا نقترح إعادة مبادرة «بحرينيون ضد الطائفية» على أن تتبناها الدولة، فالمبادرات التي تسعى للحفاظ على «وحدة ونسيج الوطن»، لا يكتب لها النجاح ما لم تحصل على أكبر دعم من الدولة.