رغم القرار الذي اتخذه البابا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية السابق، في سبعينات القرن الماضي، بمنع مسيحيي مصر من السفر إلى القدس للحج في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتزاماً بمقاطعة قطاعات واسعة من الشعب المصرى زيارة فلسطين عقب اتفاقية كامب ديفيد، ورغم رفض البابا شنودة نفسه السفر إلى القدس إلى جوار الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في نهاية السبعينات، ورغم أن البابا كيرلس السادس الذي سبق البابا شنودة في كرسي البابوية كان له موقف مماثل، حيث رفض زيارة القدس عام 1967 بعد وقوعها في يد الاحتلال الإسرائيلي، رغم كل ذلك، اعلنت الكنيسة القبطية ان البابا تواضروس الثاني سيترأس وفداً كنسياً للسفر إلى القدس للصلاة على مطرانها الراحل الأنبا إبراهام، وهي الزيارة الأولى على هذا المستوى الكنسي رفيع المستوى منذ العام 1967. وبما أن الناس على دين ملوكهم، يمكننا القول أيضا: «وعلى دين رهبانهم»، إذ يحج كثير من إخواننا المصريين الأقباط بالآلاف كل عام إلى كنيسة القيامة في مدينة القدس، حيث يحيون طقوسهم الدينية، كما في «سبت النور» و«الجمعة العظيم» و«عيد القيامة».
وينقسم هؤلاء المصريون إلى فريقين: الأول يعود إلى دياره بعد أداء شعائره الدينية. أما الفريق الآخر، فإنه يظل في إسرائيل طلباً للإقامة بها، وبحثا عن حياة كريمة إذا ما قورنت بحياتهم ومعيشتهم في مواطنهم الأصلية، بل يمكننا القول إن هذا الفريق لم يغادر بلاده، في الأساس، من أجل الحج، ولكن في المقام الأول للبحث عن فرصة للارتقاء بظروفه المعيشية، إذا ما قارنا بين نوعية الحياة وتطورها في إسرائيل ومصر. وتشير صحيفة «هارتس» الإسرائيلية الى أن عدد السياح المصريين من الأقباط هذا العام بلغ 6 آلاف، وتشير الإحصائيات غير الرسمية إلى أن هناك ما يقارب 7 آلاف مصري مستقرون في إسرائيل، وفق تصريح لرئيس رابطة المصريين في إسرائيل.
وقد لا يكون مستغرباً إذا علمنا أن المصريين المقيمين في إسرائيل، ليسوا أقباطا فقط، بل إن كثيرين منهم من المسلمين المندمجين، زواجا وتعايشا، مع «عرب 48»، في منطقة الجليل شمال إسرائيل. هذا المجتمع الذي يتكون من فسيفساء دينية، تجمع بين المسلمين والمسيحيين. كما أن هناك العشرات من المصريين المستقرين في إسرائيل متزوجون من يهوديات، وهذا التنوع والتعايش داخل حدود إسرائيل لم يخلق تلك الضجة التي يخلقها ويشعلها المتكسبون خارج حدود إسرائيل، في الدول العربية.
إن العلاقة مع إسرائيل، من وجهة نظر شعبية، تنقسم الى شقين: شق يرى أن إسرائيل أشبه بغدة سرطانية يجب بترها واقتلاعها من المنطقة، ويطالب بالحقوق ورفض الاستيطان وضرورة وقف التعديات المتكررة التي تقوم بها إسرائيل في حق الفلسطينيين، ودول جوارها. والشق الثاني يرى أن إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً، وليس لنا إلا التعايش مع هذا الأمر، وأن هذا الواقع يستدعي واجبات وحقوقا يفرضها علينا الواقع الجغرافي والاقتصادي، وموازين القوة في المنطقة.
إن وجود الآلاف من المصريين، وبقاء أهل فلسطين الأصليين، في إسرائيل، هو أكبر مثال على أن هناك واقعا لا تستطيع إسرائيل تغييره، وهو عروبة هذه الأرض. كما أننا كعرب لا نستطيع تغيير واقع وجود إسرائيل، تلك القوة العسكرية والاقتصادية التي عجزنا عن مواجهتها، والتي تسجل كل يوم تفوقا علينا في كل المجالات… وإلا ماذا يمكننا فعله، مثلا، للتضييق على إسرائيل «اقتصاديا»، كما تفعل هي من حصار اقتصادي ومائي مع مصر من خلال توغلها في أفريقيا؟ الإجابة بالتأكيد أنه لا حيلة يمكن ان تقوم أي من الدول العربية لتمنع «الغزو الإسرائيلي»، لأننا بكل بساطة لا نستطيع الضغط عليها، ولا نستطيع مواكبتها، لأنها لا تعتمد أبدا علينا في شيء، إذا استثنينا اتفاقية الغاز المصرية – الإسرائيلية قبل عقد من الزمن، والتي حل بها ما حل بعد رحيل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
إذا كانت القوى العظمى ليست في صفك، فاستخدم السلاح الاقتصادي، لأن الاقتصاد يقود القرارات السياسية وليس العكس. إن هجرة بعض المصريين، وربما غيرهم من الجنسيات العربية للاستقرار في إسرائيل، مؤشر على القوة الاقتصادية الجاذبة في إسرائيل، ولا يدخل ذلك أبدا في ما يدعيه بعض المتشددين بأنه خيانة للعرب وللقضية الفلسطينية! بل إن هناك من العرب من يعمل ضمن المقاولين الذين يبنون المستوطنات الإسرائيلية، بأجر ضعف الأجر الذي تقدمه السلطة الفلسطينية للموظف النظامي! إن التنمية الاقتصادية، وتحسين الظروف المعيشية، واحترام كيان الإنسان وتلبية أبسط حقوقه ومتطلباته داخل الدول العربية، هي المدخل لوقف الهجرة الى إسرائيل، ولعدم إعطائها مزيدا من القوة والشرعية، فهي تعمل، ونحن نتفرج!
إن للمهاجرين عقولاً جبارة، خصوصا العرب منهم، فلماذا نتركهم يبدعون هناك، ونقول بعدها: إسرائيل دولة عظمى؟ الخلل فينا نحن، لأننا «واقفون»… فلا تلوموا من «يمشي» في مواكبها ويرفع صروحها، ويضيف إليها، بل ويسبح بحمدها!