هل يمكن أن نتخيل “داعش” قد يصبح “دولة”، بالمعنى القانوني الكامل، أي لها حدود معترف بها، وشعب، وسلطة مركزية تحتكر العنف وتصبح ذات سيادة كاملة على حدودها الدولية وتعترف بها دول أخرى، وبهذا الاعتراف تصبح لها شخصية دولية كاملة! هذه الدولة الاحتمالية ستكون كابوساً لنا، لمجرد تخيل احتمال قيامها، لكنها قد لا تكون مثل هذا الكابوس، وإنما هي واقع مقبول عند البشر المحكومين بسلطة نحر الرقاب، وصلب المخالفين، وإقامة الحدود الشرعية حرفياً حسب النص القاطع دون إعمال أي تفكير، وتغير الظروف والزمان أو أي اعتبار آخر لقيم الدولة المدنية الحديثة ومبادئ حقوق الإنسان، إلى آخر الكلام.
مثل ذلك التساؤل الاحتمالي (دولة داعش)، أثارته “نيويورك تايمز” و”فورن بوليسي”، فأين الجديد في وحشية هذه الدولة المحتملة عند الجريدتين؟ لو استنطقنا التاريخ البعيد والقريب، فسنجد دولاً عظيمة قامت بمثل ما يقوم به داعش، إنكلترا وحفلات قطع الرقاب، الثورة الفرنسية وعصر الإرهاب، ستالين والثورة البولشفيكية في روسيا… واليوم هناك أنظمة عربية بدأت بمثل نهج داعش، لكن هالاتها السياسية وخطاب النفاق الدبلوماسي يغطي واقعاً أغبر لا يستشعره عميان الوعي السياسي، وكان بودي أن أذكر أسماء بعض تلك الدول، لكن ليس في خاطري أن أقضي إجازتي في سجون أمن الدولة لإساءة العلاقات لدول صديقة… ويا الله تزيد النعمة على هذه الدول الخائبة.
أعود لدولة “داعش”، فتذكر “نيويورك تايمز”، في لقاء مع أحد الأفراد يقطن تحت حكمها، أن الأمن في الأراضي التي تسيطر عليها لا تجد له نظيراً عند غيرها، فلو خرجت وتجولت هناك وبجيبك مليون دولار فلن يمسك أحد أو ينقص منك دولار واحد… أكثر من ذلك… من يدير أمور “الدولة الداعشية”، أي جهازها الإداري، غير قابل للرشوة… النزاهة ليست شعاراً فارغاً، مثلما يحدث عند معظم أنظمتنا بل هي بل حقيقة…! هذا الكلام عن “مثالية” وطهرانية الدواعش معقول، وهو ليس بالأمر الجديد في سجل التاريخ، فالمثاليون هم الأكثر وحشية لفرض قيمهم… هل تذكرون اليعاقبة في الثورة الفرنسية، وهل وجد من هو أكثر طهارة ونقاء من روسبير أو سانت جوست أو مارا، ولكن أيضاً كانت المقصلة تعمل على مدار الساعة في حقبتهم…؟
أريد أن أختصر على القارئ بسؤال: لماذا نبت تنظيم داعش ومن سبقه من جماعات الإرهاب بداية؟ ولماذا هو مستمر في سلطانه رغم تحالف معظم دول العالم ضده، ومع ذلك يظل يقاوم بعناد؟! يقاوم ببسالة إرهابية مروعة مع سيارات التفجير أو التشبث بالدفاع المستميت عن حصونه!
الإجابة “السهلة”، التي ترضي الكثير من ليبراليي اليوم عن سبب انتشار الجماعات الإسلامية التكفيرية، نجدها في مناهج التعليم التي كرستها الأنظمة العربية لكسب الشرعيات الدينية، والثقافة التاريخية لشعوب المنطقة العربية وغياب حركات الإصلاح الديني الحقيقي، وتغييب الطبقة الوسطى التي جاءت وتعاصرت مع حركة التنوير بأوروبا… كلها أسباب وإجابات ترضي الكثيرين… لكن ماذا عن سببين نمر عليهما مرور الكرام، وإجابتهما لا يستسيغهما العديد من الليبراليين الذين اختزلوا القضية بالأسباب السابقة بنهج نخبوي متعال عن واقع مجتمعاتهم. ماذا عن الفساد السياسي والإداري لأنظمتنا العربية؟! ذكرت ذلك في مقالين سابقين واستشهدت بكتاب سارة تشيس، بعنوان “سراق الدولة، لماذا الفساد يهدد الأمن العالمي…”، والسبب الثاني هو “القمع” السلطوي، الذي كثيراً ما يكون مرتبطاً بالسبب الأول، أي الفساد، فالسلطة تمارس القمع حتى تخرس وتقمع الناس كي لا يتحدث أحد عبر الإعلام عن وقائع الفساد.
أختم بعبارة رائعة قرأتها للكاتب روبرت فيسك في “الإندبندنت”، وردت في مقال لا يمكن أن أذكره، مراعاة لقوانين الجزاء والمطبوعات “التقدمية”، يقول فيها: “عندما تعذب شعبك كثيراً، فستملأ جراثيم داعش جروح هذا الشعب”.
فلنتفق على أن الفساد زائد القمع ينتج داعش ودواعش من دون نهاية… ولنتذكر أسباب الربيع العربي، وانتكاسة هذا الربيع بسلطان الفساد لعل الذكرى تنفع المتعامين…!