حالة الكويت مختلفة، ذكرتها مرارا وأكررها، فقد قامت هذه البلدة الصغيرة على الانفتاح وتعدد الرأي والتنوع، فلم تكن يوما منذ تأسيسها لرأي واحد أو لجماعة واحدة أبدا، بل مجموعات مختلفة تتعايش فيما بينها لتتمكن من النجاة، بدليل أن الكويت وكحالة فريدة من نوعها انتخبت أول حاكم لها قبل أن تنتخب الولايات المتحدة الأميركية أول حاكم لها.
لم يكن لقاطني هذا البلد أي خيار آخر، فمصدر الرزق هو التجارة عبر التنقل واستقبال الشعوب والثقافات الأخرى في الكويت، فكان لابد من الانفتاح والتعاطي مع كل شيء مختلف، وهو ما جعل من الفرد الكويتي أكثر تقبلا للآخر وانفتاحا على العالم.
وبالطبع فإن الاطلاع والانفتاح هو بذرة أساسية للإبداع، فقد كانت النتيجة الحتمية مبدعين كويتيين في مختلف المجالات والأنشطة نستذكر منهم للتدليل فقط لا الحصر: فهد بورسلي، عبدالله فضالة، سامي محمد، محمد الشارخ، فاطمة حسين، ثريا البقصمي، عبدالحسين عبدالرضا، فتحي كميل، حياة الفهد، ليلى العثمان، فيصل الدخيل، ولم يقتصر الإبداع على الأفراد بل على المؤسسات كذلك، كالبنك الوطني وتلفزيون الكويت والخطوط الجوية الكويتية وشركة المشروعات السياحية، وشركة الاتصالات المتنقلة، وملاعب ومراكز رياضية ومسارح ضخمة ومرافق متعددة، تسهم في تعزيز الإبداع، وهذا ما حدث.
إلى أن قررنا في الكويت أن نوقف كل هذا التنوع والتفوق في مختلف المجالات ونكتفي بمجال واحد دون سواه، وهو مجال الدين، بمعنى أنه كان لدينا سلة فواكه تزخر بما لذّ وطاب أفرغناها من كل ما تحتويه واكتفينا بثمرة واحدة وهي الدين، فأوقفنا إنشاء الملاعب وأغلقنا الحدائق العامة وما تحتضنه من فعاليات وأنشطة، وهدمنا مسرح الأندلس الذي أقيمت عليه أروع الحفلات الموسيقية، وحصص الرسم والموسيقى في المدارس أصبحت تسمى "احتياط" أو يستعيرها معلمو اللغة العربية والتربية الإسلامية، ومسرح المدرسة الذي كان يتقد نشاطا صار كافتريا للطلبة.
ولأن الكويتيين مبدعون بالفطرة فقد أبدعوا كذلك في المجال الوحيد المتبقي لديهم، وهو مجال الدين، فقدمنا للعالم رموزا في هذا المجال كخالد المذكور، ومشاري العفاسي، والسميط رحمه الله وغيرهم، إلا أن ضيق المساحة المتاحة للإبداع والمرتكزة على الدين جعلت الباحثين عن النجومية يلجؤون إلى كل ما هو شاذ رغبة في التميز، فطفت على الساحة أمثلة متاجرة بالدين وباحثة عن الفتنة أو مقدمة للدين بشكل سمج.
أما من لا ناقة له ولا جمل في هذا المجال فلا يجد ملاذا سوى انتظار نهاية الأسبوع ليشبع ميوله وأنشطته لدى الجيران خارج الكويت، وعلى صعيد المجالات الأخرى فكان التردي والانحدار هما النتيجة الحتمية لها في ظل غياب الاهتمام، فتكررت نكساتنا الرياضية، وانحدرت الموسيقى والفنون، والأدب صار "قليل أدب".
كانت الكويت كالنهر الجاري الذي يتدفق فيه العطاء من كل جانب، فتحمل تلك المياه الجارية الأوساخ وتلقيها بعيدا، ويتجدد فيها الإبداع بشكل مستمر إلى أن قررنا أن نبني سداً يمنع مياه النهر من التدفق، والنتيجة بركة مياه اختلط فيها الفاسد بالنقي.
لا بد من إعادة كل الثمار إلى سلة الفواكه ليعود فن النفيسي ولعب العنبري وموسيقى غنام الديكان وشعر فايق عبدالجليل ودين علي الجسار، لنعيد كل شيء كما كان عليه كي نعود كما كنا.