المهندس جمال في مصر قبل ثورة يناير كانت وظيفته الرقابة على عقود الأشغال العامة ومتابعة تنفيذها، الناس الذين يعرفونه يسمونه الحرامي، فهو كان دائم الاتصال مع المقاولين المؤهلين، ويرتب أمور المقاول الذي يضبط الأمور معه، ويعرض المناقصة أو العقد بكل التفاصيل حسب شروط المقاول “المطلوب” فقط ويتم التوقيع معه، ويقبض “جمال” المعلوم، وفي تنفيذ العقد لا بأس أن يضع المقاول أسلاك التوصيل الكهربائية من النحاس الرديء بدلاً من النوعية الجيدة، أو يركب مضخة الماء مصنوعة في الصين بدلاً من اليابانية المتينة، وتبدأ مشاكل الصيانة فيما بعد، لكن لا أحد يكترث. عرض علي المهندس جمال عدة عروض للعمل في القطاع الخاص، لكنه كان يرفض دائماً، فلا وظيفة أفضل من وظيفته في القطاع العام كمصدر للرزق ومنبع للفساد.
حكايات لا حصر لها عن الفساد في عدة دول نامية تذكرها الباحثة في الجيش الأميركي “سارة تشيس”، والتي عملت كمساعدة لقائد الأركان في كتابها “سراق الدولة لماذا الفساد يهدد الأمن العالمي”.
القضية المركزية عند سارة هي الارتباط الوثيق بين تفشي الفساد والثورات وحركات التمرد والتطرف في مثل دولنا، تبدأ من أفغانستان بعد طرد طالبان، وتعرض لتفاصيل فساد شقيق الرئيس كرزاي وكيف تمدد في الدولة، ثم تنتقل لمصر قبل ثورة يناير، ومنها لتونس قبل الربيع العربي، ثم نيجيريا وكيف انتشر داء “بوكو حرام”، ثم أوزبكستان… في كل تلك البلدان، كان الفساد الذي يمتد رأسياً من أعلى (قيادات الدولة أو حكوماتها) للأسفل، ثم ينتشر أفقياً في سائر مرافق الدولة العامة والخاصة.
وهناك دائماً العلاقة الوثيقة بين النظام السلطوي والفساد حين تضعف الرقابة الشعبية مثل البرلمان أو الصحافة الحرة أو ينعدمان تماماً وتصير السلطة القضائية، في أحايين كثيرة، ملحقاً للنظام الفاسد. مثلاً، في مصر قبل ثورة يناير يتحدث القاضي عوف مع الكاتبة عن فساد المؤسسة الأمنية هناك، فالعمل في هذا الجهاز، يصبح مصدراً للدخل وابتزار المواطنين مرات كثيرة، تتم تسمية رجال الأمن هنا بحراس المرمى، ولهم حصة معلومة في كل هدف يمر من شباكهم، ويستطرد القاضي عوف قائلاً إنه قد مرت عليه عشرات القضايا التي حقق فيها مع تلك الشاكلة من رجال الأمن، وبكل قضية يستحيل أن تثبت التهمة لتلاعب الأجهزة الأمنية بأدلة الإثبات، وتغلق القضايا دون عقوبة.
أسماء مثل جمال مبارك في مصر، أو السيدة الطرابلسي حرم زين العابدين في تونس، أو “كريموفا” ابنة الرئيس إسلام كريموف أو شقيق كرزاي بأفغانستان، كلهم يشكلون حلقات من دوائر الفساد حول مركز الحكم، ثم تتسع دوائر الفساد من المركز للأطراف، هنا تتم “مأسسة” الفساد، أي يصبح مؤسسة كاملة، وتصبح الحكومة منظمة إجرامية متكاملة مثل المافيا، أو في حالات أخرى هي حكومة ضعيفة تسن القوانين الكثيرة لمكافحة الفساد، لكنها عاجزة عن تنفيذها، فتقف الحكومة في حالة شلل أمام واقع الفساد المتمكن في أجهزتها وفي المجتمع، عندها تتحول الدولة من وضع “الضعف” إلى الفشل، كي نصبح في مواجهة الدولة الفاشلة، العاجزة عن تنفيذ القوانين في أرضها أو ضبط حدودها الدولية، وهنا تكتمل الوصفة للثورة أو التمرد أو تفتح أبواب الجحيم للإرهاب… ويظل هناك الكثير للتحدث عنه بألم في دول الفساد وكيف انتهينا بهذا العالم النكد.