ليسمح لي القارئ الكريم بأن أخرج هذه الجمعة عن طبيعة الموضوعات التي أتناولها عادة في مقالي الأسبوعي، التي تنحصر في الموضوعات ذات الطبيعة الاقتصادية. فقد فوجئت الكويت أثناء صلاة الجمعة الماضية بحادثة غير مسبوقة في هذا البلد الذي تتمتع ربوعه بالأمان التام الخالي من التطرف والإرهاب والعنف، حيث قام انتحاري بتفجير نفسه أثناء صلاة الجمعة بمسجد الإمام الصادق بمنطقة الصوابر في مدينة الكويت، وقد أودى الحادث وفقا للبيانات الرسمية بحياة 27 من المصلين وإصابة 222 منهم، حيث فجر المنتحر نفسه فيهم أثناء سجودهم.
أثبتت التحريات أن من قام بالعملية هو شاب سعودي تم جلبه إلى الكويت فجر الجمعة لينتحر في وسط المصلين بعدها بعدة ساعات، وليعلن “داعش” عبر وسائل التواصل الاجتماعي مسؤوليته عن التفجير، الذي تزامن مع حادثين إرهابيين آخرين في كل من تونس وفرنسا، مرة أخرى يحملان أيضا بصمات “داعش”، ليطلق على هذا اليوم، يوم الجمعة الدامي.
السؤال الذي أثار انتباه الكثيرين هنا هو: ما الذي يحمل شابا في مقتبل العمر على أن يقدم على الانتحار في مثل هذا الجمع مستهدفا أرواحهم جميعا معه؟ ما الذي يدفعه إلى هذا السلوك، ومن يموله، ومن يقف وراءه؟ لا شك أن مثل هذا الشاب هو نتاج عمليات غسل المخ التي تمارسها التنظيمات المتطرفة في العالم، خصوصا بين هؤلاء الشباب محدودي الثقافة ومحدودي الاطلاع وناقصي الفهم لطبيعة الدين الصحيح والهدف الأساسي من وجود الدين في حياة الإنسان، بل الهدف الأساسي من وجود الإنسان في هذه الدنيا.
لقد هيأوا المسكين لفكرة أن حصد أرواح هذا النوع من البشر هو أسرع سبيل إلى الجنة، حيث تنتظره الحور العين اللائي أعددن للشهداء من أمثاله، ويا لها من جائزة ثمينة، ماذا إذن ينتظر ليقضي حياته طالت أو قصرت في العمل الشاق من صلاة وصيام وحج وعمرة وغيرها من العبادات التي قد تشق على الذات، وآخر المطاف سوف يودع هذه الحياة طال العمر أم قصر، لقد صوروا له أنه يمكنه اختصار كل هذا في عدة ثوان ليلقى بعدها الله سبحانه وتعالى وهو في أزهى صورة يمكن أن يلقى فيها العبد ربه.
أخاله يتصور نفسه عمير بن الحمام رضي الله عنه في غزوة بدر الكبرى وهو يأكل تمرا ثم يقول لنفسه “لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فقام ورمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل”. لكن هذا لا يدرك طبيعة الموقف أو طبيعة من سيقتلهم. عمير بن الحمام كان يقاتل أناسا زحفوا للقضاء عليه وعلى دينه الجديد، هذا الانتحاري يفجر نفسه في أناس يقولون لا إله إلا الله، بما فعله أمثال عمير بن الحمام.
الأمر بالطبع لا يخلو من نصوص تنسب إلى الدين أو يلوى عنقها كي تخدم هذا الهدف، ومع الأسف الشديد كتب التراث مليئة بمثل هذه النصوص التي تعطي الإرهاب باسم الدين السند الشرعي، كتب التراث مليئة أيضا بآراء بعض السابقين الذين اشتطوا في الفكر وفي الفقه. لقد أوهموه بأن هؤلاء كفار، دماؤهم وأموالهم وأعراضهم حلال، وأن قتلهم هو أعلى مراتب الجهاد، وكأن هذه الدنيا لم تخلق سوى للمؤمنين. ثم من قال إن كون الآخر لم يوافقنا في الدين أو في المذهب يعطينا المبرر للقضاء على حياته؟ أي تعاليم في الدين تدعو إلى ذلك؟
ما لم يذكروه لهذا المغرر به أنه سوف يلقى الله بهذه الأنفس التي قتلها وهي تحمل رؤوسها على أكتافها طالبة من الله سبحانه وتعالى القصاص لها منه لأنه حرمها نعمة الحياة، لم يذكروا له كم أم ثكلى عاشت بقية عمرها تبكي ابنها الذي قتل وهي تدعو عليه ليل نهار بأن ينتقم الله منه، لم يذكروا له كم زوجة فقدت ظل زوجها الذي يرعاها ويرعى أبناءها نتيجة قراره الجهنمي بالانتحار، بل لم يذكروا له كم طفل أو طفلة فقدت عطف وحنان ورعاية أبيها سندها الأساسي في الحياة في هذه المرحلة الحرجة من العمر، وكيف سيتغير مستقبل هؤلاء الأطفال رأسا على عقب بفقدان عائلهم الرئيس.
“بوكو حرام”، (وترجمتها التعليم الغربي، أو غير الإسلامي، حرام) جماعة متطرفة تحمل أيضا التصورات نفسها عن الدين، أي التصورات ذاتها التي تعمل بمنطق ميكافيللي بأن الغاية تبرر الوسيلة، وهي منظمة اسمها يخالف سلوكها، فإذا كان التعليم الغربي حراما، فمن باب أولى أن كل منتجات هذا التعليم وما نتج عنه من اختراعات ومبتكرات ومنتجات هي أيضا حرام، بما في ذلك السلاح الذي يحملونه، والدواء الذي يتعاطونه، والملابس التي يلبسونها، والهواتف التي يحملونها … إلخ.
ابتكرت “بوكو حرام” تكتيكات جهنمية لصناعة وقود جديد مختلف للتطرف يصعب التعرف عليه أو الشك فيه أو كشفه، وهو خطف الفتيات الصغيرات، ثم عمل غسل مخ لهن، وتأهيلهن للقيام بعمليات انتحارية، أو حتى إجبارهن على تفجير أنفسهن، ربما للتخلص مما هن فيه في ظل الجماعة. على سبيل المثال في عام 2014 اختطفت “بوكو حرام” أكثر من 250 طفلة، يتم احتجازهن في ظل ممارسات عبودية، الأمر الذي بالتأكيد يحدث صدمة هائلة في نفوس هؤلاء الصغار، وبالتالي فإنه عندما يكلف هؤلاء بمثل هذه الأعمال، فإنهم غالبا لا يكون أمامهم خيار آخر في ظل مناخ الرعب الذي يعيشون فيه.
لقد تم استخدام بعض البنات في عمليات انتحارية بتحويلهن إلى قنابل متنقلة، وقد بلغ سن بعض الانتحاريات، كما تشير التقارير عن بعض العمليات الانتحارية التي نفذتها الجماعة، عشر سنوات فقط. كيف يمكن الدفع بطفلة عمرها عشر سنوات لأن تنتحر، وكيف يمكن لطفلة في هذه السن الصغيرة جدا أن تدرك المعنى الحقيقي لما تقدم عليه بتفجير نفسها وسط جموع البشر في الأسواق المزدحمة بالناس؟ بعض التقارير تشير إلى أنهن يتم تفخيخهن ثم تفجيرهن من بعد. أي شيطان يمكن أن يدبر مثل هذه الأعمال البربرية؟!
على الرغم من أن “بوكو حرام” قد استخدمت الأطفال كقنابل متنقلة في الماضي، إلا أن التطورات الحديثة تظهر اتجاها غير مسبوق في ممارساتها البربرية بتفخيخ هؤلاء الأبرياء. لا معنى ولا احترام أو تقدير للسن المتناهي في الصغر لأمثال هؤلاء الفتيات اللائي يضحى بهن من أجل الغاية، وهي القتل، إنهن مجرد وسيلة لا تختلف عن أي قنبلة أو مدفع تملكه الجماعة.
وفقا للتقارير، فإن إحدى هذه العمليات الانتحارية في بداية هذا العام أودت بحياة أكثر من 2000 شخص في إحدى الأسواق المزدحمة في مدينة باجا في نيجيريا، ولقد أظهرت صور الأقمار الصناعية تدمير 3700 منزل ومحل تجاري في هذه التفجيرات، وما زالت الجماعة تطلب المزيد من هؤلاء الذين رخصت أرواحهم بالنسبة لها ولم تعد تساوي أكثر من كمية المتفجرات اللازمة للقضاء عليهم.
إذا كانت هناك من حملات منظمة ضد الإسلام لتشويه الصورة الناصعة لهذا الدين، فلن تجد أفضل من أمثال هذه الجماعات للقيام بعناء هذه المهمة. بل لا أستبعد أن تكون الجهات المعادية للإسلام هي أول من يدعم هذه الجماعات ماديا بصورة أو بأخرى، ولم لا، فليس أفضل من أن تكلف غيرك بعناء مهمة تحتاج إلى أن تقوم بها بنفسك. نحن لسنا أمام جماعات تدعو إلى هذا الدين، نحن أمام جماعات تسعى إلى هدم الدين من أصوله، وهؤلاء يمثلون خطرا عظيما على ديننا الحنيف. فالصورة السلبية عن الإسلام تتزايد عالميا مع كل جريمة يرتكبها أمثال هؤلاء ممن يدعون أنهم ينتمون إليه، والتضييق على المسلمين في شتى بقاع الأرض يتزايد، والكراهية لكل ما هو ينتمي إلى هذا الدين تتعمق في نفوس الكثيرين في العالم، بعد أن أصبح مصطلح الإرهاب يرتبط أساسا بالجماعات المنحرفة المنتسبة إليه.
لا يستطيع أحد أن ينكر أو يقلل من التكلفة الاقتصادية لتفجير مسجد الإمام الصادق، فمما لا شك فيه أن الكويت من اليوم سوف تتبنى خططا أمنية جديدة، ووسائل أمان مختلفة وإجراءات سلامة في المصالح الحكومية والأسواق والمجمعات التجارية والمساجد وغيرها من الأماكن التي يرتادها الجمهور، وسوف تتضاعف الحملات الأمنية، وتستورد المزيد من أجهزة الأمان والحماية وهذا كله كما نعلم مكلف للغاية، وبدلا من استخدام الأموال فيما يفيد الناس من بناء للمدارس أو المستشفيات أو شق الطرق أو غير ذلك من السلع والخدمات العامة التي يعود نفعها على الجميع، سواء من الأجيال الحالية أو القادمة، سوف يتم توجيه هذا الإنفاق نحو إجراءات الحماية من الإرهاب باسم الدين، وهو إنفاق آثاره الخارجية الصافية سالبة Negative externalities على الكويت بشكل عام.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟