في عام 1961، أنشئ الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، برأسمال قدره 50 مليون دينار، عندما كانت الكويت في بداية تطورها، لتصبح دولة مستقلة معترفاً بها، وقد حباها الله، قبل غيرها، بوفرة من المال، بعد أن غدت الدولة النفطية الأولى في الجزيرة، وكانت بحاجة إلى كل دعم، لحمايتها من أطماع البعض، فلم يكن منها إلا أن أشركتهم في خيراتها.
كان من المفترض أن يزداد الدعم الحكومي، كي تصل ميزانية الصندوق إلى ألفي مليون دينار، إلا أن الحكومة لم تستطع الالتزام بذلك، بعدما انهارت أسعار النفط، وكانت قد دفعت 970 مليون دينار فقط، فطلبت من البنك أن يعمل على زيادة رأسمال الصندوق من أرباح المشاريع التي يموّلها ويُشرف عليها، وذلك بغية الوصول إلى عتبة الألفي مليون، المرصودة كميزانية، وهذا ما حصل، واستطاع الصندوق تحقيق هذا الهدف، وبالتالي أصبح يعتمد على ما يحققه من أرباح في تنفيذ مشاريعه المتعددة في دول عربية كثيرة، حيث يلزم الدول المستفيدة بدفع عجلة اقتصادها، وفق الخطط المقررة بمواقيتها، وبصرامة تامة.
الصندوق لا يدفع أموالاً لتنفيذ مشاريعه، بل يقوم هو بتنفيذ المشاريع التنموية المؤكدة فائدتها وربحيتها بشهادة دولية معروفة بمهنيتها، أي أن المساعدات تذهب لمصلحة الشعوب، وليس للحكام المتنفذين الفاسدين.
بقيت هناك بعض الدول الفقيرة التي كانت تعجز عن دفع ثمن هذه الدراسات الدولية، فتُحرم من المساعدة، لكن هذا الوضع أقلق الإنساني الفريد عبداللطيف يوسف الحمد، عندما كان رئيساً للصندوق، فقرر أن يقوم الصندوق نفسه بتمويل هذه الدراسات، ويصبح المبلغ المدفوع جزءاً من القرض الملزم للسداد.
سياسة محرجة
السؤال: هل هذه الطريقة الصارمة مريحة لنا سياسياً؟
الجواب: حتماً لا… فبعض الحكام يريدون أن يتسلموا المساعدة هم، وتكون النتيجة قبض المبالغ المرصودة للمشاريع التي لن تجد طريقها نحو التنفيذ الفعلي.
لطالما كانت هذه السياسة محرجة، كما حصل عندما طلبت حكومة دولة حبيبة لنا قرضاً بمبلغ 10 ملايين دينار، فأرسل لها الأمير الراحل جابر الأحمد وفداً، لمعرفة المشاريع المزمع تنفيذها، ليقوم الصندوق بتمويلها، ما أثار غضب تلك الحكومة وحنقها الشديد، الذي تجلَّى لاحقاً، بقيام تلفزيونها الرسمي بالربط البرامجي مع تلفزيون العراق، الذي كان يحتفل بعيد ميلاد صدام حسين، وذلك نكاية بنا، وقد كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لنا، حين شاهدنا ذلك على الشاشات، وبالطبع الناس لم تعرف حينها السبب الحقيقي وراء قيام حكومة تلك الدولة بهذه الحركة.
دور مخزٍ
الصندوق تحمَّل أعباء كثيرة، ومُني بخسائر كذلك في بعض المشاريع، ولاسيما عندما يصرُّ الوزير المعني بتقديم رشوة له للتوقيع على اتفاقية ما، وقد تكرر هذا الموقف أكثر من مرة، ولا داعي للإحراج بالإفصاح عنه.
في جميع الأحوال، القول بأن أموالنا تعمّر الخارج وتهمل الداخل، ما يسبب ندرة في المشاريع المنفذة، هو قول في غير محله، وظلم للصندوق وللقائمين عليه، فدخل الكويت من النفط خيالي، بكل المقاييس، وعدم تنفيذ المشاريع الحيوية في البلاد سببه صراع “الحرامية” عندنا، وإهمال التنمية الحقيقية، والتبذير الكبير على مشاريع مظاهر فارغة، بسبب سيطرة المافيا المالية الكويتية المتحالفة مع أطراف في النظام والقوى المتخلفة، وهيمنتها على مفاصل الدولة.
علينا ألا نغض النظر عن هؤلاء “الأعداء” الحقيقيين للتنمية في البلاد، وفي الوقت نفسه نشيد بالشرفاء من أبنائنا. إن من واجبنا دعم هذا الصرح الشامخ، شبابنا الأبطال، الذين صدقوا القول بالفعل، ورفعوا رؤوسنا عالياً، عربياً، وحتى دولياً، بالتعاون مع جهات عالمية خبيرة.
يكفينا فخراً، أن عبداللطيف يوسف الحمد كان قد رشح لرئاسة البنك الدولي، لكن قوى الفساد المسيطرة على البنك الذي سخَّر – مع الأسف الشديد- موارده في تنفيذ المشاريع الفاسدة التي دمرت أميركا الجنوبية، كما تحدث عنها السيد John Perkins بالتفصيل في كتابه المشهور Confessions Of an Econimic hit man، وهو المستشار الاقتصادي في البيت الأبيض، والمنفذ لهذه السياسة المجرمة، بالاشتراك مع شركات النفط والاستخبارات المركزية الأميركية ووزارتي الخارجية والدفاع، عارضت تعيينه في هذا المنصب المهم الذي يتم استغلاله في التآمر على الدول الفقيرة.
وقد دفع هذا الدور المخزي الرئيس أوباما إلى الاعتذار خلال زيارته لأميركا اللاتينية في بداية عهده.
فرسان الصندوق
أخيراً، من واجبي أن أذكّر بفرسان الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، أبطال هذه الملحمة الكويتية، وفق التسلسل التاريخي لتوليهم رئاسته، وهم:
عبدالعزيز أحمد البحر، وفيصل عبدالرزاق الخالد، وعبداللطيف يوسف الحمد، وبدر مشاري الحميضي، وعبدالوهاب البدر، وكذلك بالعاملين في هذا الصندوق من كفاءات ممتازة ذاقت الأمرّين من تعامل بعض المسؤولين العرب.
أما الهبات والأموال التي تصرف مباشرة من بعض المسؤولين، فمصيرها معروف، ونشاهد معالمها، في انتفاخ جيوب بعض الحُكام، وانتقالهم إلى رتبة بليونيرات العالم، ولا أستطيع تسميتهم، حتى لا أقع في المحظور، علما بأن أسماءهم ليست سراً.
كان الله في عون شعوبهم عليهم!