منذ زمن وأنا أتجنّب الكتابة حول شخوص المعارضة وأوضاعهم الفردية. وذلك بالطبع لسبب رئيسي واضح، وهو اننا في مواجهة مع عقائد ومواريث، وفي حرب مع مصالح طبقات وجماعات لها جذورها وقوتها في المجتمع. ولسنا في عداء او على خلاف مع هذا الشخص او غيره. لكن بصراحة اعتقد ان جماعة المعارضة زودوها، خصوصا هذه الايام. فهم يقدمون لنا مسلم البراك على انه المنقذ، الذي اكتسب الخبرة وبعد النظر بعد خروجه من «غياهب» السجون. لذا علينا جميعا ان نتنحى وعلى الجميع ان يتبع خطى مسلم.
صراحة اعتقد ان مسلم البراك انسان مخلص ومجتهد، مع ان لدي شك في هذا الاعتقاد. لان اخطاء البراك المتواصلة والمستمرة ربما ليست صدفة، وليست سذاجة، وليست نتاجا عفويا لسوء التقدير. لكن.. ليكن، مسلم البراك شخصية وطنية مجتهدة وصادقة. على عيني وراسي. لكن هذا لا يجعل منه بالضرورة ضميرا ورمزا وعقلا مفكرا ومدبرا لكل شيء. فكل الشعب الكويتي مخلص ووفي ومجتهد. هناك من يقل كثيرا في وطنيته وحماسته عن مسلم البراك، لكن هناك ايضا من يبز البراك ولو قليلا في الوطنية والاجتهاد. وعلى الاقل بلا اخطاء.
مسلم البراك حسب زعم الصباغين والملمعين «العليمية» تطور فكريا ونما سياسيا داخل السجن. بالمناسبة وحتى لا يذهب البعض بعيدا.. فان فترة سجن مسلم البراك، التي اصبحت عهدا اكاديميا، ليست خمسين عاما ولا حتى خمسين شهرا او اسبوعا. هي مجرد خمسين يوما فقط. لكن طورت هذه الخمسين امين «حشد» وأهلته لان يقود الناس بلا جدال او نزاع.
طور البراك «فكره»، فبدلا من ان يكون النزاع بين ذوي الدخل المحدود والطبقة الفاسدة، اصبح الآن حسب امين عام «حشد» صراعا بين «الطبقة العاملة وتحالف السلطة ورأس المال». هذا الطرح «الماركسي اللينيني» توصل اليه امين «حشد» بعد خمسين يوماً في «ظلمات» السجن. وتبنته يوم امس بقية عباقرة «حشد» في بيانها الاخير حول تسفير سعد العجمي الذي اكتشف ـــ اي البيان ـــ ان تدهور البلد سببه «التحالف المشبوه بين السلطة المتهورة ورأس المال الجشع»، وهو طرح اعمى يتناسب تماما مع الحالة التي يدعي البراك انه عاشها في السجن. فنحن في الكويت ليس لدينا لا رأسمالية ولا رأسمال. ولا طبقة عاملة، ولا حتى هم يحزنون. كل الذي عندنا هو موظفون يوقعون ولا يداومون، مثل الذين داوموا في قصر العدل اثناء محاكمة البراك. وليس لدينا طبقة عاملة تسفح عرقها وتمتص دماءها الطبقة الرأسمالية. فهذا كان في ظلمات العصور الوسطى وليس في «ظلمات» سجن البراك. حتى في بقية انحاء العالم اليوم، لا وجود لهذا التحالف المزعوم. فالانظمة الرأسمالية تطورت وتفننت في تلميع نفسها وتسويق نظامها على انه الافضل. ولا داعي للاسترسال، فلست معنيا بتسويق النظام الرأسمالي، ولكن تحالف السلطة مع رأس المال لامتصاص عرق الكادحين اصبح في المتاحف منذ نهاية الحرب الكونية وتبني العهد الدولي لحقوق الانسان. لكن الاهم من هذا كله هو اننا في الكويت ليس لدينا عمال ولا انتاج ولا حتى رأسمال مثمر. عندنا تنافس على اقتسام دخل النفط، صحيح ان البعض يأخذ اضعاف ما يأخذه غيره. لكن الصحيح الاهم ان أحداً، مع الأسف، لا من جماعة البراك ولا ممن يعارضهم، يستحق ما يستحوذ عليه.
النظرية او الفكرة العظيمة الثانية التي انبثقت من ظلام السجن هي فكرة «الحكومة المنتخبة». يبدو ان السيد مسلم البراك مغيّب او لا يعي معنى الانتخاب. فنحن مر علينا اكثر من نصف قرن ونحن ننتخب. اكثر من خمسين عاماً، وليس خمسين يوما كسجن البراك، ونحن ننتخب. ومع هذا، فإننا لم نفعل شيئا غير الرجوع الى الخلف والابتلاء باشخاص كمسلم البراك وبقية شخوص المعارضة لتصدر الواجهة السياسية. خمسون سنة مرت ونحن ننتخب والنتيجة اننا تحولنا الى عنوس الخليج، بعد أن كنا عروسه والحفرة التي يتجنبها البعض بعد ان كنا القمة التي يرنو اليها الجميع.
المطلوب هو حكومة ديموقراطية، وليس حكومة منتخبة. فاثينا وروما وحتى مكة في جاهليتها كان لديها حكومات منتخبة او مختارة ومجلس امة «دار الندوة». لكن الحكومة الديموقراطية ليست شأنا لمسلم البراك ولا اهتماما لبقية قبليي ومتديني المعارضة الجديدة. فالحكومة الديموقراطية يعني انها تساوي بين الناس جميعا في العدالة والمساواة. والأهم من هذا انها تعني الحرية الحقيقية، وليس الحرية المسؤولة او المقيدة بتقليد ومواريث التخلّف التي تدعو لها معارضة اليوم. لهذا يتجنّب مسلم البراك وبقية المعارضة.. يتجنبون «الديموقراطية»، فهي ضد القبلية وضد التدين.
القفزة الفكرية الثالثة لأمين عام «حشد» هي «النضال السياسي». لا نريد إساءة الظن، فلا نزال نحترم مسلم البراك وبعض الاغلبية، ولكن من الصعب الا نتساءل.. إذن: ماذا كنتم تفعلون طوال هذه السنوات..؟!
يبدو ان مسلم البراك يريد ان يعلن نهاية المشاركة في الانتخابات. والقطيعة معها نهائيا. لهذا تبقى القفزة الفكرية الاخيرة لامين عام «حشد» تحصيل حاصل. ومحاولة غير ذكية لاستباق شطبه من الترشح للانتخابات ان ادين بتهم امن الدولة الموجهة له. ليس تطورا فكريا وليس تصعيدا نضاليا وليس ابتكارا جديدا «النضال السياسي». بل هي انانية مسلم البراك في حرمان بقية المعارضة من المشاركة في الانتخابات التي سيحرم من خوضها.
هذا هو مسلم البراك الظاهرة التي يريد تسويقها البعض، باعتبارها او اعتباره «الرمز» الجديد الذي سيملأ مقعد أحمد السعدون بعد الانقلاب عليه.