يبدو لي أن هناك تدابير مُمنهجة لتدمير الحياة السياسية في الكويت، فبعد أن تَخلّت الحكومة عن أسلوبها القديم في تعطيل العمل بالدستور، وتعليق الحياة البرلمانية بشكل مباشر وصارخ، أصبحت تلجأ إلى إفراغ الحياة السياسية من مضامينها الرئيسية، والمتمثلة في القيم الديموقراطية التي يقوم عليها الحكم الرشيد، من سيادة للقانون، وتحقيق مبدأ المواطنة، وتنظيم العمل السياسي بما يضمن تشكيل كُتل نيابية كبيرة تحقق أغلبية برلمانية، تتيح لها تشكيل حكومة تُمنح الثقة بناء على برنامج عمل تم طرحه في الانتخابات.
تَمثل الأسلوب الجديد للحكومة في تفكيك الحياة السياسية من الداخل، وإفراغها من محتواها، في الممارسات الحكومية المختلفة، عبر الهروب من استحقاقات الرقابة الشعبية في الاستجوابات، فتارة تحيله إلى المحكمة الدستورية، وأخرى إلى اللجنة التشريعية، وثالثة برفع كتاب عدم تعاون، وغيرها من الحيل السياسية تحت ذرائع دستورية، تُمثل التفافاً على مواد الدستور، بما يناقض مقاصده الرئيسية وتوجهاته العامة.
وقد بلغ تدمير البيئة السياسية ذروته في مرسوم الصوت الواحد، حيث عزز كل الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها الوطن، وأخرجها على السطح، فقد رسّخ الفردية في التمثيل السياسي، وخفّض عدد الأصوات المطلوبة للنجاح، فصار المرشح بحاجة إلى أصوات أقل، يستطيع أن يحصل عليها من «فخذ القبيلة» والعائلة، وجزء من الطائفة، والمنطقة السكنية، لتخرج لنا كائنات انتخابية يُطلق عليها في ما بعد «ممثلو الأمة»!
المصيبة أنه بعد أن شهدنا الكوارث التي حلّت بالبلد من وراء الصوت الواحد الذي قسّم المقسّم، وجزّأ المجزأ، وفتَّتَ المجتمع ودمّر الحياة السياسية، نشهد توجهاً نحو تعميم هذا النموذج السيئ على بقية المؤسسات القائمة على الانتخاب، ليصبح – بكل ما يحمله من عيوب – فلسفة عامة في مؤسسات الدولة، فبعد أن صار الصوت الواحد واقعاً مراً في النظام البرلماني، تم استنساخه للجمعيات التعاونية، ويجري الآن التحضير لاستنساخه في الأندية الرياضية والاتحادات الطلابية، ليتم القضاء على ما تبقى من أمل في استعادة الحياة السياسية لعافيتها، وتدمير آخر معاقل الأمل التي تمثل الشباب، والتي يفترض أن تخرّج للمجتمع العناصر الحية التي تتقدم به إلى الأمام..
عندما تقوم الحكومة بفرض هذا النموذج في مختلف مؤسسات الدولة، فإن هذا مؤشر على شعورها بحالة من الضعف، على عكس ما يتوهمه البعض، فلأن الحكومة تدرك أنها ضعيفة، فهي تقوم بإضعاف الشعب عبر تفتيت مكوناته لتدمير حياته السياسية، حتى لا يُعطى الفرصة لفرض إرادته، وتحقيق سيادته.
المؤسف في الأمر أنه كان من المفترض بعد خمسين عاماً من الحياة الدستورية أن نتحدث عن تطوير لهذه التجربة، أو على الأقل الحفاظ عليها، ولكن الحاصل أننا أصبحنا نتحدث عن كيفية إيقاف التدهور والتردي الذي أصبحت تعانيه، ولا ندري في أي قاع سيقف بنا!