حوالي 950 ضحية غرقوا بقارب الصيد قبالة السواحل الإيطالية، منهم أطفال ونساء، هربوا من الجوع والإرهاب وحروب الطوائف القبلية من بلدانهم العربية والإفريقية، وهي أسوأ الدول الفاشلة في المعايير الإنسانية، لتطفوا جثثهم فوق مياه البحر المتوسط. هي كارثة من عدة كوارث تتكرر في مياه الموت، لكنها ليست من القضاء والقدر، وإنما حدثت بفعل إجرامي مسبق، ليس فقط من جماعات المهربين ملاك القوارب المتهالكة، بل بإجرام المافيات والأنظمة التي فرضت على هؤلاء الضحايا الهرب من جحيم دولهم، وبمسلك الدول الأوروبية التي استعمرت دولهم بالماضي والتي تستقبل، اليوم، على مضض من يصل منهم حياً، فهي التي قامت طائراتها الحربية بضرب نظام القذافي بحجة تجنب حرب أهلية وكارثة إنسانية حسب مزاعمها، فأين انتهت ليبيا…؟
المنطق ذاته نجده في مخيم اليرموك، بسورية، فبعد أن كان سكانه حوالي المليونين، هم الآن أقل من 18 ألفاً، تمت محاصرتهم من ثلاث مجموعات متنازعة، داعش والنظام السوري وقوات فلسطينية مختلفة الولاءات. لو مددنا البصر لليمن التعيس، المشهد هناك لا يقل مأساوية عن مخيم اليرموك، ولا يختلف عن قوارب تهريب اللاجئين في الشمال الإفريقي، جوع ودمار، وحروب بالوكالة وحروب قبلية وطائفية يلعب فيها علي عبدالله صالح وجماعاته دور أمير الفساد، وبطل من أبطاله، وهناك مثله كثيرون في بلاد العرب الواسعة، يقول صالح إن من يحكم اليمن “كأنه يرقص فوق رؤوس الأفاعي”، لكنه استطاع الرقص فوقها لأكثر من ثلاثة عقود، فإذا لم يكن أفعى راقصة ناهبة فاسدة فماذا عساه يكون؟!
هل هناك من تألم لصور أعداء الأصنام من الدواعش، وهم يهدمون ويفجرون آثاراً تاريخية عمرها يقارب الثلاثة آلاف عام في العراق وسورية، كأن هناك خشية أن يتحول البشر في أرض الثورة المحررة لعبادتها، بدلاً من عبادة رعبهم وإرهابهم! لكن لا يهم إن هدموا تراثاً إنسانياً سومرياً وبابلياً أو فجروا مساجد ومراقد صوفية تاريخية، فالإنسان يبقى أهم منها، طالما ظلت رقبته بعيدة عن النحر الحلال… ومهما تكن عليه الأمور فهناك من ينظر إلى الممارسة الانتقامية من الميليشيات الشيعية لسكان المناطق المحررة من داعش أقل رعباً من نهج داعش السني، كأن على البـؤساء في تلك المناطق أن يقبلوا أيديهم على نعمة الميليشيات، فهذا أقل الضررين وأهون الشرين، مثلما ننظر الآن، إلا أن الأنظمة التسلطية التي حكمت بلداننا على أنها أهون من شرور الثورات التي انقلبت إلى حروب ثارات وعصابات… وفي تراثنا مقولات كثيرة على مقاس: حاكم غشوم ولا فتنة تدوم.
لماذا الكتابة عن تلك المآسي؟! ربما نستيقظ ولو قليلاً، ونقول لأنفسنا إن الدنيا ليست الكويت وخليجنا “الثري” فقط، هناك أراض تحرق وبيوت تهدم، وبشر أقرباء لنا يحيون في جحيم دائم، وكانت أحوالهم في زمن مضى أفضل من أحوالنا بالأمس… ولسنا أفضل من أهل حلب أو إدلب أو الرمادي أو تعز أو بنغازي… قد تصبح أحوالنا مثلهم، فلماذا هذا التكبر والغطرسة والتعالي عند الكثيرين منا؟