من الملاحظ بشكل جلي أن النظم القائمة على نهج الاستبداد تنتشر بها بعض الأمراض المدمرة للمجتمع، والتي تتشكل على هيئة فيروسات تقتل كافة قطاعاته وجهوده حول تحقيق أعلى مستويات من التنمية والتطور والتقدم المنشود، ومن تلك الفيروسات وأخطرها أنها (نظم الإستبداد) لا تضع باعتبارها أي اهتمام لقضايا حقوق الإنسان، وتداول السلطة، ولا تدعم أي أطر محاسبية للحكام والمسؤولين، مما يؤثر في النهاية على كافة قطاعات المجتمع من «سياسة، واقتصاد، وتعليم، وقضاء، وصحة، وبحث علمي، وتكنولوجيا، وغيرها»، ليس ذلك فحسب، وإنما يمتد ذلك الأثر السلبي إلى تجريد الإنسان من طبيعته الاجتماعية أو ما يُعرف في علم الاجتماع السياسي بـ «حالة اللاوعي الاجتماعي» التي صاغها عالم السياسة الفرنسي جورج بوردو، وهي حالة لا واعية يصبح فيها الانسان مهتم فقط بمصالحة الذاتية الشخصية، وتبرز بها الأنانية، على حساب مصالح المجتمع العليا، الأمر الذي يقتضي من الإنسان تهذيب النزعة الأنانية التي تسيطر عليه، والالتزام بالمعايير والقيم والأنماط السلوكية المقبولة اجتماعيا لكي يعود لحالة «الوعي الاجتماعي».
في ظل نظم الاستبداد نجد أن الكثير من الأفراد يتخلون عن المبادئ والقيم المثلى، فيتحول الفرد بذلك من إنسان طبيعي اجتماعي يسعى إلى تحقيق مصالحه في إطار المصالح العليا للجماعة ككل، إلى إنسان «غير طبيعي» ينصب الاهتمام الرئيسي له على تحقيق واحد من الهدفين التاليين أو الاثنين معا..الأول؛ يكمن في محاول التقرب من دائرة رأس الدول والإنضمام إلى النخبة «المحظوظة»، بالقرب من السلطة وما يستتبع ذلك من مزايا عينية ومادية ومعنوية كالمكافآت والهدايا أو عضوية مجالس إدارات شركات أو بنوك أو رئاسة مصالح عامة أو تقلد مناصب تنفيذية أعلى أو ما شابه ذلك.
أما الهدف الثاني؛ فهو النظر إلى علاقاته مع غيره من الناس، أو المصلحة التي يعمل بها، على أنها مجال لتحقيق مكسب مادي ما أو مصدر للتربح السريع ولو على حساب الآخرين، ويترتب على هذا انتشار الكثير من مظاهر استغلال النفوذ والمخالفات المالية والإدارية ومحاباة الأقارب والمحسوبية والرشوة، وذلك في كثير من قطاعات المجتمع وعلى كافة المستويات بدءاً من أصغر مصلحة حكومية إلى أكبرها.
إن تلك الفيروسات قد تؤدي في العادة إلى تفشي ظاهرة عدم إكتراث الأفراد بشأن العام من قضايا ومشكلات مجتمعهم، فيصبح كل ما يشغلهم هو مصالحهم الذاتية الآنية والمستقبلية فقط، أما بالنسبة للأمور الأخرى فلا تلاقي أدنى اهتمام لديهم، ولا يحرك ساكناً عندهم، بل ويصبح الفرد أو الشخص الذي يهتم بالقضايا ومصالح مجتمعة، محل نقد وسخرية واستغراب. وتكاد كلمات وعبارات مثل «القيم، والمعايير، والمصلحة العامة،العمل العام» أن تختفي من المنظومة القيمية السائدة بين الكثير من الأفراد والجماعات في المجتمع.
فبهذا، يصبح لسان حال كثير من أفراد ومكونات المجتمع «أنا مع الحكومة» وذلك للتعبير عن تبعيته لمن في أروقة الحكم، والبعد عن العمل العام، وعدم الاكتراث بالمصلحة العامة، فيتضح بأن الإستبداد قد نجح في تجريد الإنسان من مجرد التفكير بأنه منفصل عن الحكومة والدولة، وعدم إدراك أن الأصل أن يكون الإنسان «المواطن» متفاعلاً مع حكومته بالدعم إذا ما عبّرت عن آماله وأنجزت مصالحه، أو بالمعارضة والنصح إذا ما تجاهلت تلك الآمال والأهداف، فالحكومة هي وسيلة للتعبير عن مطالب الناس وهي الأداة التي تعمل على تنفيذ مصالح المجتمع بكافة فئاته وطبقاته.
هذا، وترتبط تلك الفيروسات في منطقتنا بسياسات حكومية تستهدف بشكل أو بآخر تقييد ومحاربة كل أوجه المجتمع المدني من خلال فرض قيود قاسية على عملية تأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، بل والتدخل في العملية الانتخابية، والحيلولة دون استقلال القضاء والجامعات وحرية الصحافة، بل والعجز عن تأمين الأمن الداخلي، والفشل في مواجهة قضايا وتحديات قد تؤدي إلى نزاعات طائفية أو عرقية، جرّاء تحويل اهتمام قوات الأمن من أمن المجتمع والمواطنين وحماية ممتلكاتهم وحرياتهم إلى أمن النظام والملتفين حوله والمستفيدين منه ولو على حساب تلاحم عناصر المجتمع وتماسكهم.
فبذلك، نجد أنه عند تحقق تلك الأمور سابقة الذكر، فإن فيروسات الاستبداد تكون قد نجحت في تدمير المجتمع بكافة قطاعاته، وتفشت ليس فقط في أروقة المجتمع المدني والأحزاب السياسية والمؤسسات التعليمية والقضائية والأمنية، وإنما أيضاً إلى الإنسان وأنساق القيم والمعايير والأنماط السلوكية التي تُوجه علاقاته وسلوكياته في المجتمع.
إن الطغاة في العادة لا يتركون وراءهم مجرد أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية متهالكة تحتاج إلى جهد كبير لإصلاحها، وإنما شعوباً قد جُردت من إنسانيتها وتحتاج إلى الانتقال من جديد من حالة التجمع الغريزي والأنانية المفرطة إلى حالة المجتمع الإنساني الذي يوازن فيه الإنسان بين مصالحه من جهة ومصالح الجماعة التي يعيش بينها من جهة أخرى.