مرت قبل أيام ذكرى ميلاد شخصية أدبية مصرية غير عادية، ففي الحادي عشر من شهر ديسمبر من عام 1911 جاء إلى هذه الدنيا طفل شاء له الرحمن أن يحصل على جائزة نوبل في الأدب وهو الراحل الكبير «نجيب محفوظ» !! كان واحدا من الذين تنفست رائحة أحبارهم عبر سطورهم التي احتوتها روائع كتبوها ! هو و«فتحي غانم» و«إحسان عبدالقدوس» و«يحيى حقي» و«يوسف إدريس» و«أمين يوسف غراب» و«يوسف السباعي» وغيرهم!. كنت في السابعة عشر حين قرأت له روايته الشهيرة -والتي منعت في مصر لعقود طويلة وتسببت بجدل بين الأزهر الشريف ووزارات الثقافة- وهي «أولاد حارتنا» وكانت تطبع وتباع في المكتبات وعلى الأرصفة في عاصمة الثقافة -أيام زمان- .. بيروت!! في العشرين من العمر قرأت له «الثلاثية» وهي «بين القصرين» و«السكرية» و«قصر الشوق»! في الحادية والعشرين التهمت «زقاق المدق» و«اللص والكلاب» و«ملحمة الحرافيش»! نجيب محفوظ بالنسبة لي -هو «الوجبة الرئيسية» المشبعة المكونة من ..«اللحم والمرق» لكن حين أنتهي من «تناوله» أشتاق إلى «الحلويات»، فأذهب إلى «إحسان عبدالقدوس» فأقرأ له .. «لا أنام» و«الطريق المسدود» و«لاتطفئ الشمس» .. وغير ذلك كثير!! وحين يأتي وقت الاسترخاء مع «المكسرات اللذيذة» فلا شيء يضاهي قراءة كتب «أنيس منصور» و«يوسف إدريس» و«يحيى حقي»، كانوا أشبه بآبار المياه العذبة الباردة رآها ولمسها وغطس بداخلها .. «طفل كويتي ولد في صحاري الجزيرة العربية القاحلة وشب على صوت خريرها»!!
في الثانية والعشرين من العمر قرأت خبرا في صحيفة كويتية يقول: «تناقش اليوم على مسرح جامعة الخالدية رسالة الماجستير المقدمة من الطالب سليمان الشطي وهي بعنوان: الرمز والرمزية عند أدب نجيب محفوظ»!! كان ذلك عام 1974 كنت أول الحضور في القاعة وآخر الذين غادروها!! التقيت الأديب الراحل «محفوظ» في الإسكندرية -بالصدفة المحضة- عام 1974 في بهو فندق «سان استيفانو» وكان بصحبة ابنته، جلست معهما لأكثر من ساعة، رجل مصري بسيط من الذين ترى مثلهم بالملايين في كل أنحاء مصر المحروسة، لكن الباري عز وجل خصه بتلك الملكة .. «الكتابة» إذ أعطاه إياها وجعله يمسك بالقلم وقال له: «اكتب» فكتب..وأبدع وأبهر العالم!!
سخرت -ذات يوم في مقال- من الذين يسمون انفسهم بـ«الأدباء الشبان» حين يستخدمون في كتاباتهم لغة معقدة ومقعرة معتقدين أنهم كلما تصعبت حروفهم وكلماتهم على فهم القارئ صاروا .. كبارا!! كانوا يكتبون بلغة: «عندما يغلي اللعاب تحت السحاب وحين تنتفض الحلمة خلف الجبال».. وهكذا ! قلت لهم :«اقرأوا لنجيب محفوظ والسباعي وعبدالقدوس ومنصور ومصطفي أمين وعلى أمين وهمينغواي وتولستوى» وغيرهم .. فلن تجدوا ..«اللعاب يغلي تحت السحاب ولا حلمة تنتفض خلف الجبال»، لكنهم.. زعلوا ..وغضبوا!!
«نجيب محفوظ» كان يكتب وكأنه يتحدث معك وأنتما جلوسٌ في مقهى داخل حارة شعبية تسمع فيها صوت «طرق النحاس» ممزوجا بأبواق السيارات ومعجونا برائحة المطاعم وبساطة ريشة قلمه هى التى طارت به إلى كل الدنيا فخرج من قاع «المحلية» إلى قمة ..العالمية! الأن السويدي والدانمركي والأميركي والإيطالي والصيني يعرفون من هو «المعلم كرشه» في «زقاق المدق» ومن هو «السيد عبدالجواد» في «الثلاثية» ومن هو اللص «سعيد مهران» في ..«اللص والكلاب»!! من أقواله المرعبة: هذه هى الحياة: إنك تتنازل عن متعك فيها الواحدة تلو الأخرى حتى لا يبقى فيها شيء، وعندئذ تعلم أنه قد حان وقت .. الرحيل!! وقال أيضا: «الثورات يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها ..الجبناء»!! وقال: «أكبر هزيمة في حياتي هى حرماني من القراءة عندما ضعف ..بصري»!! وقال:«عندما تغضب المرأة تفقد ربع جمالها ونصف أنوثتها وكل .. حبها»!! «نجيب محفوظ» لم يعد مصريا ولا عربيا، فقد أصبح ملكا للتراث الأدبي والإنساني خالدا .. كخلودهما!!