عبداللطيف الدعيج

رفع المعنويات.. لا رفع الأسعار

ليس مستغرباً على الإطلاق موقف المواطنين الرافض لزيادة أسعار الوقود. وفي الواقع أي زيادة لأي منتج أيا كانت أهميته أو ضروريته. فأحد لن يتقبل برضا كامل المساس بدخله أو الانتقاص من كم الرفاه الذي يتمتع به. لكن المستهجن، وهو في الواقع ليس بمستغرب، هو موقف ما يسمى القوى السياسية من الزيادة.
لا نستغرب معارضة المواطنين، فالزيادة مهما كان تبريرها أو تلطيفها هي في النهاية عبء لن يكون من السهل على المواطن التكيف معه بسهولة. لكن ليس ما يسمى القوى السياسية. فهذه يجب الا يحركها رد الفعل العفوي ولا حتى المصلحي الذي بالتأكيد لا يمكن للمواطن أو المستهلك في هذه الحالة ان يتحرر منه. القوى السياسية من المفروض ان تتعامل مع الامر بــ «سياسة» ودراسة وتفهم لدوافعه ومبرراته. واتخاذ موقف عملي مدروس منه، ان تأييدا او رفضا. لكن جماعاتنا السياسية كما هو متوقع تعاملت بعفوية وسذاجة مع الامر. وزاد بعضها الطين بلة حين اصر على عزف اسطوانة الفساد المملة واتهام الفاسدين بالتخطيط للزيادة للاستمرار في نهب المواطن..!!!
هناك عقدة لدى الكثيرين ولن اقول البعض، ممن يتعاطون السياسة في هذا البلد، وهي صعوبة تقبل او حتى تفهم القرارات الحكومية. وفي واقع الامر اي قرارات لها علاقة بالشأن العام. لان الشأن العام هنا هو حكومي صرف. الحكومة او الدولة تخلق كل شيء وتمول كل شيء، وبالتالي مسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة.. لهذا فإن الدولة او الحكومة -التي من المفروض ان تدير الدولة- تتحمل اللوم، واللوم فقط. فليس هنا ثناء ومديح لان المتوقع ان «تعتني» الدولة بالمواطن هنا وان تقدم له كل شيء على طبق من ذهب.

لا يملك سياسيونا حلولاً للمشاكل.. لكنهم يملكون قدرة إعاقة الحلول

جميع السياسيين عندنا، لا يملكون نظرة واقعية للامور. وليس لدى اي منهم فهم او تصور حقيقي للواقع وقدرة عملية على التعامل معه. لهذا فان كل ما لدى مجاميعنا السياسية اليمينية واليسارية والوطنية والدينية والقبلية.. كل ما لديها جميعا هو النقد والمعارضة والاتهام، ولا بديل أو اسهام حقيقي ولو نظرياً للتصدي للمآسي التي نعيش والازمات التي نواجه. ليس هناك اي تنظيم او جماعة أو أي قوة معنية بالشأن العام، لدى اي منها نظرة واقعية وبرنامج عملي محدد للتعامل مع الواقع الكويتي. الكل يدعي الاصلاح والكل يرفع شعار تنويع مصادر الدخل، والكل يعلن تصميمه على الانفلات من اسر الدخل النفطي.. لكن ليس هناك كويتي واحد لديه رؤية عملية محددة لتنفيذ أي من هذا. يعني بالكويتي «محد يقول شلون».!!
والأمر لا يتعدى العجز وقلة الحيلة والتدبير كما هو واضح هنا، بل هو يصل الى الاسهام الفعلي «العنيد» على الابقاء على الوضع الحالي وتعزيز العجز الوطني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا… وكل هذا يجري مع الاسف تحت شعارات مكافحة الفساد والحفاظ على رفاه المواطنين، اضافة الى البلوى الرئيسية حماية المال العام.
لدرجة انه عندما تقدمت الحكومة وحيدة عبر الكفاءات النفطية لوضع اللبنة الحقيقية الاولى لتنويع مصادر الدخل المتمثلة في مشروع «الداو كيميكال» تصدت أغلب المجاميع السياسية للمشروع واصطفت خلف السراق الحقيقيين للمال العام -ومن تحالف معهم- لوقف تنفيذ المشروع وادانته وطنيا بحجة الفساد واستغلال النفوذ. وتمكنت بؤر الفساد والحرمنة الحقيقية وقوى العجز الاجتماعي من تركيع الحكومة واجبارها في ظل الصمت الوطني، بل عبر المشاركة السلبية الوطنية، أجبرتها على الغاء مشروع «الداو» وتحميل الوطن كلفة الغرامة المادية لهذا الالغاء. قوى الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي كانت من القوة والنفوذ بحيث حيدت الجميع وشلت كل المجاميع السياسية في ذلك الوقت حيث لم تتطوع اي منها، ولو بحياء، للدفاع عن مشروع «الداو كيميكال». حتى الحركة الدستورية الاسلامية التي كان وزيرها مسؤولا عن المشروع لم تجد القدرة او ربما الشجاعة للوقوف خلف المشروع وحشد القوى الوطنية والسياسية خلفه. وهذا ليس لوما او نقدا للحركة الدستورية وحدها، بل للكل.. فقد كنا جميعا، حتى انا.. فلم اكتب مقالا واحدا – عند الحاجة – للدفاع عن المشروع. الجميع كانوا واقعين تحت هوس حماية المال العام والخوف من الاتهام بالمساس به. وهكذا تمكنت قوى الفساد والحرمنة الحقيقية بمشاركة قوى التخلف السياسي والاجتماعي من محاصرة الحكومة وقبر اول خطوة عملية اتخذتها الكويت نحو التحرر من هيمنة السطوة النفطية والبدء في تنويع مصادر الدخل الوطني.

مجاميع الحرمنة وإفرازات المجتمع الريعي تصدّت لمشروع «الداو كيميكال»

لم أقل قوى الفساد والحرمنة وحيدة.. فهي أعجز من ان تقوم «وحيدة» بمثل هذه الخطوة الجبارة. ولا تملك القوة والفعالية الكافية للتصدي لمشروع حيوي كمشروع «الداو كيميكال». لكن تعاونت معها قوى التخلف الاجتماعي وما تمكن تسميته «المعوقات» التي أفرزها المجتمع الريعي. هذه «المعوقات» هي التي تحمل اليوم راية التحدي للاصلاح وهي التي تناهض سياسة الترشيد الحقيقية عبر الادعاء بان الاصلاح يكمن فقط في الحد من الفساد وتقليص الانفاق او – حسب الزعم – الهدر الحكومي. هذه المعوقات هي مع الاسف نحن.. الشعب الكويتي برمته، الذي حوله الانفاق الحكومي الريعي الى قوة متعاظمة الاستهلاك، ومتواضعة او بالاحرى عديمة الانتاج كليا.
هناك مقولة تتردد دائما عند التحسر على المجتمع القديم، حيث كان «التجار» يمولون خزينة الدولة ويدفعون كلفة الخدمات الادارية والسياسية التي كانت تتولاها الدولة في ذلك الوقت. هذه المقولة حقيقية.. ولكنها ليست الحقيقة كلها، او الحقيقة «الحقيقية» ان جاز التعبير. فالذي كان يموّل خزينة الدولة في ذلك الوقت هم المواطنون المقيمون والذين يتعاملون معهم من المناطق المجاورة. كان البحار يدفع والزراع يدفع والسماك يدفع.. حتى البدوي القادم من الصحراء لبيع منتجات الرعي كان يدفع ويمول خزينة الدولة. اي ان التاجر كان مجرد وسيط بين الدولة «الإدارة في ذلك الوقت» وبين العاملين. وان الحقيقة الناصعة هي ان هناك من بنى الكويت بماله.. وهناك من بناها بجده واجتهاده وهم غالبية الناس.
الناس كانت تعمل وتنتج، والادارة كانت تجبي الضرائب والمكوس من كل عامل ومنتج. اليوم هذه القوى المنتجة ببحارتها وزراعها ورعاتها وما كل ما يتصل بها من اعمال لم تعد موجودة، او بالاحرى لم تعد موجودة وطنيا، اذ تمت تغطية كل هذا بالعمالة الاجنبية «الرثة» في الغالب. ليس هذا وحسب.. بل انها تحولت من منتج وعامل اساسي في دعم الخزينة العامة الى مستهلك مبذر للثروة الوطنية وفوق هذا كله معاد ومعاند لكل ترشيد أو حد من اسراف.

كل شيء مدعوم في الكويت حتى أجور ورواتب الوافدين
لقد كان امام الحكومة طريقان، لا اعتقد ان هناك ثالثاً لهما للاستمرار في الرفاه الذي اعتاده المواطن الكويتي. فاما تنويع مصادر الدخل بالبحث عن دخل غير الدخل النفطي لتمويل الخزانة العامة، وإما تقليص الدعوم والانفاق. وقد جربت الحكومة اولا تنويع مصادر الدخل عبر محاولة «الداو كيميكال» وتحويل الكويت الى مركز مالي. لكن مجاميع التخلف والمعوقات التي أفرزها المجتمع الريعي حالت ولا تزال تحول امام ذلك. لهذا لم تجد الحكومة في النهاية حلا سوى رفع الدعوم وتقليص الخدمات وفرض واقع «الاسهام» في دعم الخزينة العامة على عاتق المواطن.
المواطن او بالاحرى «المستهلك» هو من سيتحمل اي رفع عن الدعوم. وبالمناسبة المدعوم هنا ليس الوقود والماء والكهرباء والخبز فقط. بل كل شيء، حتى الوافدين – الذين يحلم البعض بفرض ضرائب غير دستورية وغير انسانية عليهم – مدعومون من قبل الحكومة فهم مثل المواطن يستهلكون المدعوم من كهرباء وماء ووقود وحتى الغذاء، لهذا فان اسعار اجورهم ورواتبهم متدنية، وبالتالي فان المواطن يستهلك ما ينتجون او يحولون باسعار زهيدة نسبيا. هذا يسري ايضا على القسائم الصناعية والزراعية والحيوانية التي طالما اشار البعض الى رمزية ايجاراتها. ومع ان هذه حقيقة ناصعة، اي شبه مجانية القسائم، فإن اي رفع لتكلفة استغلالها سوف يدفعه المستهلك في النهاية وليس التاجر.

مسكين طابخ الفاس.. يبي مرق.. من حديدة
البعض اخترع بالقوة طريقا ثالثا لمعالجة ازمة المجتمع الكويتي وهي استقصاد فئة كبار الموظفين والتجار، باعتبار انهم هم من يستهلك جل الدخل النفطي.!!! ليس هناك شك على الاطلاق في ان هناك تسيّبا واستغلالا غير شرعي للدخل الوطني. وليس هناك ادنى شك في ان لدينا الكثيرين ممن يتحصلون شرعا او عنوة على اكثر مما يستحقون. ليس هناك شك على الاطلاق هنا.. فهذا يحدث في اكثر او جل المجتمعات. ولكن بالطبع بدرجات متفاوتة. ونحن ربما نتربع على القمة.. لكن هذه ليست المشكلة الحقيقية للمجتمع الكويتي. اذ تبقى المشكلة الحقيقية في ان أحدا لا ينتج هنا، وفي المقابل الكل يستهلك وبشراهة. احد لا ينتج هنا، تشمل التجار قبل ما يسمى المواطنين. رغم ان التجار هم مواطنون أيضا. فتجارنا هم في النهاية مواطنون كويتيون. والمواطن الكويتي حاليا هو عالة على الدولة بغض النظر عن اصله او فصله او موقعه الاجتماعي. تجارنا مثل ذوي الدخل المحدود منا يتعيشون على «الانفاق» الحكومي. لهذا فان اطروحة فرض ضرائب على «التجار» او الشركات هي نكتة تفتقد الكثير من الحنكة والذكاء. وينطبق عليها المثل الساخر «مسكين طابخ الفاس.. يبي مرق من حديدة». فالحكومة يجب ان «تنفق» اولأ كي تجبي الضرائب من التجار. تجارنا مثل مواطنينا لا ينتجون.. بل يتعيشون على الانفاق الحكومي. لذا فان الافضل للحكومة او الدولة ان «تقتصد» وان تمسك ما لديها بدلا من ان تكون ضحية لسياسة «خذ من جيبه وعايده».
ليس هناك حل غير ان يشمر المواطن الكويتي عن ساعده وان يعمل وينتج ويستغني في النهاية عن جهد الوافدين الفنيين وبقية العمالة الرثة الذين يدفع دون ان يشعر ثمن أجورهم.
مع هذا بقيت كلمة هي المهمة هنا.. وهي ان الأجور والرواتب هنا محسوبة على اساس الدعم الذي توفره الدولة. فنحن نتلقى رواتب واجوراً قليلة نسبيا، لان التعليم والصحة والسكن والغذاء والوقود والمواصلات والاتصالات وكل شيء تقريبا مدعوم من قبل الدولة. لهذا فان الرواتب والاجور الحالية تتناسب مع الحالة التي نعيش. وبالتالي فان اي الغاء للدعوم يجب ان يقابله تعويض مناسب في الرواتب والاجور. وهنا نعود مرة اخرى الى «خذ من جيبه وعايده» فالدولة مطالبة بان تدفع اكثر لموظفيها – وكل الكويتيين حاليا موظفون لديها بمن فيهم التجار – اذا ارادت ان ترفع اسعار وتكلفة الخدمات والا فان المواطن والوافد ايضا لن يكون قادرا على الدفع. ليس لانه متذمر او لا يريد كما هي الحال الآن.. ولكن وببساطة لان اجره وراتبه محسوبان على الدعم وعلى رخص تكلفة المواد والسلع التي يستهلكها او يتعيش عليها. لهذا فانه سيكون عاجزا عن الدفع وليس غير متعاون، كما يبدو الأمر الآن.
هنا نصل الى ان المطلوب حل جذري لمشكلتنا وليس حلولا ترقيعية قد تغطي تكاليف اليوم ولكنها بالتأكيد لن تغطي تكاليف الغد. الحل يعني «تحولا» جذريا في البنى السياسية والاقتصادية وقبلها الاجتماعية للمجتمع الكويتي، وهو ما بحاجة إلى تعاون وتفهّم الجميع.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *