أ.د. محمد إبراهيم السقا

الضغوط تتزايد على الجنيه المصري

أتابع بقلق شديد منذ فترة تطورات معدل صرف الجنيه المصري بالنسبة للعملات الأخرى وعلى رأسها الدولار، وأسلوب صناعة القرارات المؤثرة في معدل الصرف، لما لتدهوره من انعكاسات سلبية على القوة الشرائية لدخول عموم المصريين ومستويات رفاهيتهم، وقد اشتدت في الفترة الأخيرة الضغوط على الجنيه المصري نحو التراجع، حيث لامس الدولار هذا الأسبوع حاجز عشرة جنيهات في السوق السوداء لأول مرة في تاريخ مصر.

الضغوط على الجنيه المصري تعكس أساسا طبيعة الخلل الهيكلي بين موارد مصر من النقد الأجنبي واحتياجاتها منه، المرتبطة أساسا بطبيعة هيكل الجهاز الإنتاجي والاعتماد المكثف على الواردات من الخارج مع انخفاض تنافسية الاقتصاد المصري وقدرته على التصدير، وكذلك تنافسية الصناعة المصرية في مقابل الواردات من الخارج.

فليس لدى مصر ما تصدره للخارج تقريبا، إذا ما استثنينا الصادرات النفطية، والتي تمثل نحو 40 في المائة من إجمالي الصادرات التي بلغت 22 مليار دولار في 2014/2015، بينما بلغت الواردات من الخارج نحو 61 مليار دولار في 2014/2015، ومن المتوقع أن تتجاوز 80 مليار دولار في العام الحالي 2015/2016، ونتيجة لذلك ارتفع العجز التجاري لنحو 39 مليار دولار في 2014/2015، مقارنة بنحو 27 مليار في 2010/2011. يتم سداد جانب مهم من هذا العجز من خلال إيرادات الخدمات، بصفة خاصة تحويلات العاملين في الخارج وإيرادات السياحة وقناة السويس.

شهدت الفترة الأخيرة تراجع موارد النقد الأجنبي بفعل تراجع قطاع السياحة، وتأثر الاستثمار الأجنبي، وانخفاض حجم التحويلات الرسمية، وهو ما ترتب عليه تراجع نسبة احتياطي النقد الأجنبي إلى الواردات إلى مستويات حرجة. فلم تعد تكفي سوى لتمويل ثلاثة أشهر من الواردات وهو ما يرفع من مخاطر شح السيولة من النقد الأجنبي ومن ثم مزيد من الضغوط على العملة.

مشكلة سوق النقد الأجنبي في مصر ترتبط كما نرى أساسا بجانب العرض من النقد الأجنبي. من جانب آخر فإن التطورات التشريعية المرتبطة بالنقد الأجنبي تظهر مدى التضارب في قرارات البنك المركزي في التعامل مع أوضاع السوق. فالقرارات الخاصة بكيفية التعامل في النقد الأجنبي تصب في جانب واحد وهو خفض العرض من العملات، وعندما يكون هناك نقص في العرض من النقد الأجنبي، فإن الإجراء الطبيعي أن تصب قرارات البنك المركزي في جانب تشجيع العرض، لا خفضه.

من أمثلة ذلك ما اتخذ من قرارات بوضع قيود على كمية النقد الأجنبي الوارد مع المسافر، مع عدم السماح له بإيداع كمية أكبر من تلك التي سجلت معه أثناء دخوله البلاد، أو على كمية النقد الأجنبي التي يتم إيداعها يوميا أو شهريا في المصارف من النقد الأجنبي حتى من جانب المصدرين. فهل يعقل في بلد يعاني نقصا حادا في العرض أن توضع قيود كمية على المصدرين في إيداع ما لديهم من نقد أجنبي وتحديده بمليون دولار شهريا، السؤال المنطقي ماذا يفعل من لديه أكثر من هذا الحد؟ الإجابة المنطقية هي الذهاب به إلى السوق السوداء، ليتسع نشاطها بصورة أكبر ولتمثل عنصر ضغط على معدل صرف العملة.

أيا كانت الدوافع وراء مثل هذه القيود الكمية، فإن تلك الدوافع يجب أن تحتل أولوية ثانوية أمام أولوية استقرار معدل صرف الجنيه، لأن تراجع معدل صرف الجنيه في أي وقت، غالبا لا يترتب عليه تحسن المعدل في المستقبل أخذا في الاعتبار الضغوط المتزايدة التي يواجهها الجنيه في سوق النقد الأجنبي.

على ما يبدو أن صانع سياسة معدل الصرف لا يدرك حقيقة أن أي دولار يدخل مصر بأي صورة كانت يصب في خانة العرض من العملات الأجنبية، وبالتالي يخفف من الضغوط على الجنيه المصري ويوفر تمويلا للمعاملات التي تحتاج إلى تدبير عملة بغض النظر عن مدى مشروعيتها، فجميعها في النهاية يمثل مصدرا للطلب على العملات سواء في السوق الرسمية أو السوداء.

من جانب آخر، فإن محاربة السوق السوداء أو المعاملات غير المشروعة فيها يجب ألا يتم من خلال القيود الكمية التي تفرض على الجميع، إذ إن هذه المهمة مسألة رقابية وأمنية بالدرجة الأولى ولا تعالج من خلال فرض قيود على تدفقات العملة للسوق الرسمية للنقد الأجنبي. كما أن معالجة اختلالات سوق الصرف الأجنبي ليست مسألة مرتبطة بإجراءات وقوانين للتعامل مع تدفقات العملات للداخل أو الخارج، وإنما هي مسألة ترتبط أساسا بالفجوة الضخمة بين موارد مصر من العملة واحتياجاتها منها، التي تتطلب برنامج إصلاح اقتصادي هيكلي لتخفيض اعتماد مصر على الاستيراد من الخارج ورفع قدرة الاقتصاد الوطني على التصدير.

أخيرا قام البنك المركزي بإلغاء القيود الكمية على إيداع وسحب النقد الأجنبي من المصارف بالنسبة للأفراد مع استمرارها بالنسبة للشركات، وهو ما يظهر مدى تخبط القرارات التي يتم اتخاذها لتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي، على الرغم من حساسيته الشديدة اقتصاديا.

باختصار، مصر تواجه اليوم أزمة في سوق الصرف الأجنبي، ولكن أزمة الجنيه المصري ليست أزمة كمية، بقدر ما هي أزمة سوء إدارة أهم ملامحها فشل عملية إدارة سياسة معدل الصرف الأجنبي في تحقيق الاستقرار المناسب لقيمة الجنيه أمام العملات الأخرى خصوصا الدولار، لا شك أن ذلك يعني أن مصر تحتاج إلى إدارة للبنك المركزي تفهم في السياسات النقدية وآليات الإدارة السليمة لمعدل الصرف الأجنبي، وكيفية إدارة جانبي العرض والطلب على نحو كفء يضمن استقراره، وتدرك بشكل جيد الآثار المترتبة على كل قرار يتخذه البنك المركزي على العملة، وانعكاسات كل إجراء يقوم به على العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي بمعناه الواسع، أي السوق الرسمية والسوق السوداء، حتى لا يضطر لاحقا لإلغائه، بما يعكس تخبط البنك المركزي في قراراته على النحو الذي يترك انطباعا لدى المراقبين بأن البنك المركزي لا يدرك مغزى ما يقوم به من إجراءات، ولا يدرس تبعاتها بشكل مهني.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *