د. شفيق ناظم الغبرا

غزة: تحرير الإرادة من قيود الانتظار

راكمت الحرب على غزة، والتي بدأتها إسرائيل، المزيد من الظلم ضد ضحاياها وجعلت فرص بقاء إسرائيل بالشكل الذي نعرفه حتى الآن أكثر عسراً. يقع هذا على رغم عقود السلام وأشكال التطبيع. حرب غزة أكدت أن إسرائيل تدفع ثمناً سياسياً وعسكرياً وأمنياً من جراء صدامها مع قوى الشعوب: «حماس» و»الجهاد الإسلامي» الآن، وقبل ذلك «حزب الله» في جنوب لبنان وحركة «فتح» والمقاومة والانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى والثانية. في الزمن القادم ستواجه إسرائيل مزيداً من المقاومة ذات البعد الشعبي. فالحركة الصهيونية لم تستوعب، حتى الآن، أن الآلام والمظالم التي يتعرض لها الشعب العربي الفلسطيني والمحيط العربي الإسلامي ستزيد من صلابة المقاومة بكل أبعادها الشعبية.

لقد أوصلت معركة غزة إلى قيادة النضال الفلسطيني تياراً مقاوماً جديداً متداخلاً مع الإسلام السياسي. التيار الجديد أكثر تجذراً في وسائل نضاله بينما يتميز بجرأة قيادية وصلابة منقطعة النظير. هذه القوة الصاعدة لم تصل إلى مداها حتى الآن، مما يؤهلها لإعادة طرح الصراع وكأن أوسلو وكمب ديفيد واتفاق وادي عربة وكل أشكال السلام السابقة لم تقع. هذا الوضع الجديد سوف يعمق من العلاقة التاريخية والإستراتيجية بين المقاومة وفلسفتها وبين العمق الشعبي العربي والإسلامي، لكنه في نفس الوقت سيسمح للمقاومة بنسج علاقات مختلفة مع السلطة الفلسطينية والدول العربية على قاعدة كفاحية جديدة.

في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة تبين أن الفلسطينيين الرسميين يشبهون العرب الرسميين مع تعديلات، لكنهم يملكون دوراً سياسياً ودبلوماسياً لا يمكن تفاديه والتقليل من قيمته، وتبين أيضاً أن المقاومة تتفاعل مع شارع شعبي عربي/إسلامي غير رسمي لم يكتمل دوره بعد. وأكدت الأحداث أن السلطة الفلسطينية هي سلطة الحاضر التي يجب التعامل معها ضمن ثوابت، تماماً كما أن القيادة في مصر ودول عربية أخرى هي سلطة قائمة يجب التعامل مع دورها في إطار ثوابت ومبادئ. وفي نفس الوقت هناك تغير في قاع المجتمع العربي والفلسطيني سيفرض واقعاً جديداً. إن معارك الغد مع إسرائيل ستقع في ظل معطيات مختلفة، فالعالم العربي من أكثر المناطق تغيراً في العالم وهو لهذا مرشح لتغيرات إستراتيجية في السنوات القليلة المقبلة.

وفي ظل حرب غزة برزت إسرائيل كدولة غير طبيعية قامت في الأساس على أراضي الغير، كما شرعت وجودها من خلال طرد سكان البلاد الأصليين واستعمار أراضيهم ومصادرة ممتلكاتهم. فالاستيطان الإسرائيلي ذو الصبغة الاستعمارية كما يقول نديم روحانا وبشير بشير وغيرهم من المفكرين الفلسطينيين من أراضي ١٩٤٨: نجح في بناء قومية إسرائيلية تقوم على اليهودية، وهو بهذا اختلف عن الاستعمار الاستيطاني التقليدي كما كان حال الجزائر لأنه أضاف إليه بعداً قومياً. لهذا فإسرائيل ليست فقط استعماراً، ولا هي فقط استيطان، بل إنها أيضاً استعمار بنكهة وطنية وقومية استعلائية ترتبط بتحول اليهود القادمين إلى فلسطين إلى قومية: شعب يستعمر شعباً ويأخذ أرضه ويصادرها لصالح استعماره.

هذا الوضع يجعل الصراع أكثر تعقيداً بخاصة في ظل وجود أكثر من خمسة ملايين يهودي إسرائيلي يعيشون تحت تأثير فكر إقصائي استيطاني يقتات من الخوف وعقلية الحصار. هذا الوضع يتطلب من قوى المقاومة التي تواجه إسرائيل التمييز بين مواجهة الصهيونية والاحتلال والعنصرية الإسرائيلية حتى النهاية، وبين تطوير خطاب، سيحين وقته قريباً، يساعد اليهود في فلسطين وعلى الأخص الأقلية المؤمنة بضرورة التصدي للصهيونية كشرط للتوصل إلى حل إنساني وسياسي عادل.

إن الصهيونية بطبيعتها توسعية واستبدادية، وقد رفضها في البداية معظم يهود العالم، لكنها ستعود غريبة عن اليهودية وذلك لأنها غير قابلة للتعايش وعاجزة عن إيقاف شنها للحروب والاستيطان وتهجير السكان والتوسع في فلسطين والقدس. مواجهة اليهودية للصهيونية ستشكل الأمل الوحيد للإسرائيليين للوصول إلى سلام دائم، يتجاوز الهدنات الموقتة. إسرائيل بلا صهيونية تشكل جوهر تصورات الدولة الواحدة التي يتعايش فيها الناس بناء على الحقوق المتساوية أكانت جماعية وطنية أم فردية. وهذا بالتحديد يجعل الصراع بين الصهيونية والشعب الفلسطيني والشعوب العربية عملية تاريخية طويلة الأمد تتخللها عشرات الجولات والانتفاضات والمواجهات. غزة في هذا تمثل منعطفاً هاماً.

ومن جهة أخرى إن تراجع مكانة القوى الدولية الغربية في منطقة الشرق الأوسط وبخاصة الولايات المتحدة فتحت فراغات تسمح بتحسن ميزان القوى المختل بين إسرائيل من جهة والمقاومة من جهة أخرى. التحسن في الميزان يفرض قيوداً على القوة الإسرائيلية المطلقة ويجعل الضغط السياسي الشعبي العالمي والرسمي أكثر تأثيراً. لقد برزت إسرائيل عام ١٩٤٨ في قلب الخريطة العربية بصفتها امتداداً لمرحلة الاستعمار واتفاقات سايكس بيكو البريطانية الفرنسية التي قسمت المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية عام ١٩١٨. إن تمدد إسرائيل بعد احتلالها لفلسطين جاء في ظل سواد القوة الأميركية في الستينات والسبعينات. لهذا فتراجع مكانة القوة الغربية الأميركية بينما تنمو مكانة دول إقليمية رئيسية مثل إيران وتركيا يصب لمصلحة تغير إستراتيجي لا يزال في طور التشكل، كما أن التحالفات في مجلس التعاون كما الاختلافات تصب في السعي للتعامل مع ذات الفراغ الإقليمي. أما الانتفاضات والثورات العربية فتمثل بطبيعة الحال امتداداً لحالة البحث التي تعم المنطقة عن نفسها وحقوقها واستقلاليتها. إن قدرة «حماس» على المواجهة في الخمسين يوماً ونيف الماضية دليل واضح على تغير في التوازنات.

مع الوقت سوف يزداد الوعي الأميركي بأن الكثير من العداء الموجه للولايات المتحدة في الشرق الأوسط من إيران إلى المغرب ومن فلسطين إلى لبنان وأفغانستان وباكستان مرتبط بالقضية الفلسطينية. لهذا فالكثير من الإرهاب وبعض من «القاعدة»، وجوانب من ١١ سبتمبر ضد الولايات المتحدة والمواجهات في العراق بعد ٢٠٠٣ وغيرها ليست بعيدة عن المسألة الفلسطينية، بل تمثل أحد أهم عوامل ومحركات الكراهية المتجهة أميركيا. مع الوقت، سيعي مزيد من الأميركيين أن تدخل بلادهم في الشرق الأوسط لا ينطلق دائماً من حسابات أميركية خالصة، بل في معظم الحالات نجده مرتبطاً بمواقف وضغوط إسرائيلية. يكفي أن نعي أن السياسة الأميركية الرسمية، وبسبب ضغوط اللوبي الإسرائيلي، تلتزم علناً بجعل القوة الإسرائيلية متفوقة على مجموع الجيوش العربية.

لقد أثبتت غزة، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن مستقبل الفلسطينيين وقضيتهم مرتبط بالأرض التي يقاتلون من أجل حقوقهم فيها، فلا سيناء ولا الأردن ولا لبنان أو سورية، على رغم كون كل تلك البقاع عربية أصيلة، ستكون بديلاً عن القدس والأرض التاريخية في فلسطين. معركة «حماس» و»الجهاد» والمقاومة الفلسطينية في غزة هي معركة الانتماء إلى القدس وليس إلى شرم الشيخ أو سيناء كما أشاع بعض الإعلاميين. إنها تثبيت للانتماء لحيفا ويافا والناصرة وحق العودة وحق التنقل من غزة إلى الخليل ورام الله. مواجهة غزة: مواجهة من أجل الارتباط بالأرض التي أخذت بالقوة والقرى التي تم هدمها من قبل إسرائيل والشعب الذي هجّر ظلماً.

إن من يعتقد أن الشعب الفلسطيني أو أن «حماس» و»الجهاد» بل و»فتح» وغيرها كان يمكن لها أن تفكر في حل يصفي القضية الفلسطينية من خلال سيناء لا يعي مدى الارتباط الذي يكنه عرب فلسطين للأرض، كما لا يعي مدى حجم الإرث السياسي المقاوم الذي تتناقله الأجيال منذ بدايات القرن العشرين إلى يومنا هذا. فمن أجل تلك البقعة استشهد عشرات الآلاف من الفلسطينيين وعشرات الآلاف من العرب. إن أفكار التوطين في سيناء والأردن أو في لبنان كانت دائماً أفكاراً إسرائيلية وغربية قاومها الشعب الفلسطيني، لكن مجرد قيام دولة الاحتلال بطرحها بهدف فك أزمتها الفلسطينية لا يعطي الحق لأي دولة من الدول لإغلاق الحدود والتعامل معاملة غير إنسانية مع المتطلبات الطبيعية للناس والمرور والحياة. إن غزة تنظر إلى فلسطين بصفتها أرض الأنبياء والحقوق والمكان الذي لا مكان بعده، فالأرض تلك ساحرة وجاذبة، أما بالنسبة إلى سيناء ومصر فهي تتوقع المدد والمساندة.

لأول مرة منذ ما يقارب العشر سنوات بالتحديد ينفض الفلسطينيون ومناصروهم الشعبيون (حركات ومثقفين وقوى سياسية عربية وعالمية) الغبار عن حالة فقدان الثقة بالنفس، وهذا بدوره رفع من منسوب الإصرار على تحقيق الحقوق. هذا الوضع يحث الفلسطينيين ومناصريهم على تنظيم الصفوف وترتيب الأولويات استعداداً لتحديات الزمن القادم. معركة حصار غزة هي معركة مع النفس بقدر ما هي مع دولة الاحتلال، وهدفها واضح: تحرير الإرادة من قيود الانتظار والسلبية.

 

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *