محمد الوشيحي

ونطفئ النار بالنار

الكويت تشتعل يا صاحبي، بالصلاة على النبي، وكلما اشتعلت نار أطفأها “الحكماء” بنارٍ أشد منها وأنكى وأمرّ. وما تشاهده الآن هو نيران وهمية تشد الأنظار بعيداً عن النيران الحقيقية.
ولا أخفيك، قلت لصاحبي الذي سألني “وبعدين؟ متى تتفرغ للأدب الروائي وتغادر مدينة السياسة وضجيج مصانعها وقذارة أموالها؟”، أنا مثل تجار السلاح الذين تنتعش تجارتهم في أيام الحروب، ويلعنون كل “غاندي” يمشي على الأرض حاملاً غصن الزيتون، ويكرهون معاهدات السلام أكثر من أزواج أمهاتهم، هكذا تراني أنت، وهذا غير صحيح، فأنا أتمنى أن تخسر تجارتي، أتمنى أن أشاهد معاهدة السلام في الكويت، كي أغلق حانوتي وأتخلص من بنادقي، وأحمل مزودتي على كتفي وأتوجه إلى حيث أحب، إلى حيث أتمنى أن أكون، إلى حيث الأدب الروائي والشعر والجلوس على الشاطئ لمراقبة ملامح أمواج البحر، هذه موجة تحتضر وتلك تولد من صلبها.
وأقسم بالله، قلت له وأنا أضع يدي على قلبي كما يفعل عساكر التاج البريطاني عند أداء القسم، لولا خوفي على ما تبقى من وريقات شجرة الجمال الكويتية ما كنت بقيت في هذا الضجيج، ولما تصديت لكل هذه الأسراب المخيفة من الجراد التي تنوي الانقضاض على “شجرتنا”، صدقني ليس أمامنا إلا أن يحمل كل منا عصاه ويهرول مسرعاً للدفاع عنها، كما أزعم وأظن. وأرى أن ترْك “شجرتنا” عرضة لجحافل الجراد ليس إلا نذالة في أبهى صورة. ثم هل تعلم أنني لو أردت أن تنتعش تجارتي في ثوان معدودات لما عانيت، فليس مطلوباً مني إلا الصمت، الصمت فقط! الناس ترتزق من أصواتها كالفنانين والسياسيين وغيرهم، وأنا وأمثالي “كلامنا من فضة رخيصة، وصمتنا من ذهب”، آه لو أنك سمعت، وآهين لو أنك علمت.
وسأكشف لك سراً: “رغم أن السياسة هي منجم الذهب، إلا أنني أشعر بالغربة بين أوساط السياسيين، وأزورهم متثاقل الخطى، بينما أحتضن عشاق الأدب كلما شاهدتهم احتضان طفل للعبته التي وجدها بعد أن بكى كثيراً لفقدانها”.
وسأكشف لك سراً آخر: “جهتان تعنيان بالأدب راودتاني عن نفسي، وطلبتا مني هجر السياسة والتفرغ للكتابة الأدبية، وتعهدتا بتوفير مؤونة الرحلة ومطايا القافلة، وأنا، بينما هم يقولون ما يقولون، أجاهد كي لا تتسلل دمعة من بين أمهاتها المتحفزات وتقفز من عيني! كم أتحرق شوقاً لتلك اللحظة التي أعلن فيها مغادرتي مدينة “السياسة المحلية” وألوّح لأهلها مودعاً”.
ثق، أو لا تثق، لا شيء في هذه المدينة يثيرني، يكفي أنني أمشي فيها وأنا أضع أصبعيّ في أذنيّ وأحسب عدد خطواتي، وأنا رجل تنبت أزهاره من أمطار التسكع والفوضوية، آآآآخ ما أجمل الفوضوية يا صديقي، وما أحر زفراتي التي أطلقها وأنا واضع رأسي على فخذ فوضويتي وأصابعها تعبث بشعري.
افسح لي، يا صديقي، مكاناً إلى جانبك في روضة الأدب، فسآتيك قريباً حاملاً فوضاي بين يديّ، تجلجل ضحكاتي وتزلزل “سُبّع الأرض”، وإذا نشبت رجلي في مدينة السياسة فسأقطعها وآتيك أحجل على رجل واحدة، سآتيك لا ريب فقد مللت المدينة التي يندر فيها الفرسان، وتندر فيها الخيل، وتكثر فيها الضباع وبنات آوى.
هل قلت لي إن الشعر العربي قام على كتفيْ شاعرين، امرئ القيس والمتنبي؟ طيب ماذا عن أبي تمام وشعره الحداثي؟ ولماذا انتُقد وهوجم؟ ولماذا وُضع بعد ذلك في منزلتهما؟ حدثني فإني مستمع، وتعال نشعل السيجارة بالسيجارة، والقصيدة بالقصيدة، ولا نامت أعين الساسة…

حسن العيسى

ماذا لو!

أظن أن المثل المصري يقول “الفاضي يعمل قاضي”، ولو ركبنا المثل على ظهر البعير الكويتي لأصبح أغلبنا قضاة يصدرون أحكاماً بالإدانة أو البراءة بعضنا على بعض لا بحكم القانون، وإنما بحكم الفراغ السياسي والملل الاجتماعي. في حكاية العقيد النجار نائب مدير عمليات القوات الخاصة، والتي من أهم مهامها، وفق الأعراف الاستبدادية “تعقيل” المشاكسين المعارضين للسلطة وتعريفهم بحدود حرية الرأي تحت ذريعة “هيبة السلطة والقانون” حدثت واقعة هرول إعلامنا “الحر” لنشر غسيلها يوم النحر الكبير، وتم فعلاً وحسب الوقائع الإعلامية إصدار الحكم بإعدام العقيد في عمله، وإحالته على التقاعد وحجزه بأمر وزير الداخلية! رغم أنه لا توجد شكوى، بعد أن تنازلت عنها “ضحية اليخت” وقبضت ثمن التنازل مقدماً وأغلق ملف التحقيق، أو هكذا يفترض أن يسدل الستار على مسرحية ساعة فرح “وثرثرة فوق الخليج” إلا أنها انتهت بغم وحزن، بعد أن صار أهل السياسة قضاة أو طلاب ثأر من ضابط القوات الخاصة، وكأنه هو وبأوامره من ضرب المتجمعين في ديوانية النائب الحربش، وهو المسؤول الأول والأخير عن ترويع الآمنين وتخويفهم بعصا الأمن والطاعة، ولم يكن ينفذ فقط واجب “أمرك سيدي ونعم طال عمرك”…
“قضية” العقيد النجار، وهي أصلاً لم تكن قضية، بعد أن قبلت الشاكية بالقدر والنصيب وقبلت الصلح وقبضت المعلوم، أضحت قضية الآن لأن صاحبها يحمل تاجاً ونجمتين على كتفيه، ولأنه قاد عملية الضرب واعتقال د. الوسمي بصورة مهينة في ديوان الحربش! ماذا لو لم يكن ضابطاً يحمل النسر والنجمتين على كتفيه، وكان مواطناً عادياً قدمت بحقه شكوى ضرب وأذى بسيط (أو بليغ) وتم التنازل عن الشكوى أو سحبها حسب القانون، وهو، بالمناسبة، القانون ذاته الذي نسميه أحياناً بالدستور وأحياناً بقانون الجزاء ومنه قانون المرور وقانون جرائم الرشوة واستغلال النفوذ وإلى آخره من قوانين “بيض الصعو” التي نسمع بها ولا نراها إلا أحياناً نادرة حسب مركز الضحية (مثل الدولة وهي مع أجيالنا القادمة ضحايا بيت العز وغير مهمين) أو مركز المتهم الاجتماعي أو السياسي! ماذا لو كان مواطناً بسيطاً هل كنا نتصور أن تحدث مثل تلك “القضية”…! قد نقول بسذاجة إنه لا يمكن أن تصبح قضية، أو قد نقول بسذاجة أكبر إنها قد تصير قضية وقضايا يطرب لها العازفون في فرق الكدر الدائمة على المسرح الكويتي البائس.
ماذا “لو”، سؤال لا يعرفه التاريخ، لأنه حدث وانتهى في الكويت، فاذرفوا دموع الأسى بحرارة على حالكم وقوانينكم.