الفلوجة على أبواب التحرير من احتلال “داعش”، هكذا تقول التقارير الإخبارية وفق المعطيات العسكرية على الأرض، ولا شك أنها معركة شرسة لأن هذه المدينة من أهم معاقل التنظيم الإرهابي، وقد بسط سيطرته عليها لما يزيد على عامين، وتحصّن فيها الآلاف من المرتزقة من مختلف بلاد العالم. أهمية تحرير الفلوجة تكمن أيضاً في أنها نقطة استراتيجية لكسر الطوق عن بقية المناطق الداخلة في نطاق تنظيم “داعش” وحواضنه المهمة، إضافة إلى امتدادها الجغرافي مع سورية، وهذا يعني أنها ضربة قاصمة لظهر “الدواعش” وحلفائهم إقليمياً.
عمليات تحرير الفلوجة تأخرت كثيراً سياسياً بسبب الفيتو الأميركي والرفض العربي لاعتبارات إقليمية ومذهبية؛ لأن المستفيد الأول من نجاحها الحكومة العراقية وإيران والنظام السوري وروسيا وكذلك الفصائل العسكرية الشيعية في العراق، ولذا فإن البعد الطائفي في غاية الوضوح، إلا أن بدء العمليات الميدانية وبوادر الانتصار فيها ورسائل الدعم والتهنئة التي أطلقتها عدد من الدول العربية الرئيسية ومنها المملكة العربية السعودية، والمشاركة الجوية للطيران الأميركي لها دلالاتها أيضاً في التوافق السياسي وإن لم يكن معلناً.
القناعة بأن “داعش”، بفكره التفكيري وممارساته الإرهابية ومخططاته لاحتلال كل البلاد الإسلامية، شر مطلق أو خطر مشترك بين السعودية وإيران، وبين الشيعة والسنّة، وبين الأميركيين والروس جاءت متأخرة، حيث استفاد الإرهابيون كثيراً من هذه التناقضات، بل كسبوا دعماً مباشراً أو غير مباشر بسببها فاتسعوا وتمكنوا، ولكن يبقى مثل هذا الاتفاق، وإن كان ضمنياً، خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح لإبعاد هذا الخطر الكبير عن أرواح الناس وممتلكاتهم، بل عن وجود عدد من الدول العربية وبقائها بكامل مقوماتها.
إذا كانت هذه المجموعة الكبيرة من الدول قد وصلت إلى القناعة الكاملة بخطورة “داعش” بامتداده الفكري والعقائدي وترفّعت عن خلافاتها الحادة، فلماذا حالة الهستيريا التي انتابت بعض التيارات الدينية التي تزعم الاعتدال والبراغماتية فراحت تولول وتستغيث وتستنجد تحت شعار “نصرة الفلوجة” والتباكي على أهلها، وتدعو إلى إنقاذ المرتزقة والمرتزقات ممن جاؤوا بمحض إرادتهم ليتحكموا برقاب شعوب بلدان أخرى، ونصبوا أنفسهم ولاة عليهم، بل بدأت تنفخ في أبواق الطائفية وتحرض على المزيد من الاحتقان المذهبي في تكسّب رخيص لا يراعي حرمة ولا كرامة لدماء المسلمين وأرواحهم؟
إن غباء المتباكين على الفلوجة وغير الفلوجة فضح أمرهم، فمن يرفض أن ترجع المناطق المحتلة من قبل “داعش” إلى السيادة الوطنية ويعود شعبها إلى النسيج المجتمعي؛ ليفتحوا صفحة جديدة من الأخوة والمواطنة المشتركة، فهو بالتأكيد يبارك بقاء هؤلاء المجرمين على رقاب الناس وفرض معتقداتهم وسلوكهم وإرادتهم عليهم زوراً وظلماً، فمشكلة هذه الأبواق أنها تتشدق بالكلام المجاني، ولا تملك الجرأة بالوجود في الميدان مع من يوالونهم فيجاهدون “عن بعد” بدماء عيال الناس، فتعساً لكم و”لا أحسن الله عزاكم”!