عدوى ينقلها الكبير للصغير، ينقلها المهم جداً للذين أقل أهمية منه وفق قوانين الجينات الوراثية، والأخير بدوره ينقلها لمن هم أقل، ثم للذين (الذي) هم (هو) أقل مرتبة ومركزاً، وتظل دوائر الوباء تمتد وتتوسع في المجتمع والدولة، حتى يصيب المرض معظم الناس، عندها قل على الدولة السلام.
المرض اسمه “فيروس الحاشية”، المسؤول الكبير ناقل المرض له حاشية صغيرة في البداية، لكن ضرورة الصعود للأعلى بالسلم السلطوي (كما يفهمها المسؤول) تملي عليه أن يوسع من دائرة الحاشية، أي الأتباع، فيزيد من العطايا لدوائرهم، ويغرق أفرادها بهدايا باذخة، سيارات مرفهة غالية الثمن أحياناً، أو أموال نقدية وتحويلات مالية في أحايين أخرى، أو ترقية لمناصب عليا لا يستحقونها.
وهكذا تتوسع دوائر العطاء وتتكاثر دوائر الحواشي أو المتزلفين وتصيب ضعاف النفوس من أصحاب المهن، سواء كانوا صحافيين أو كتاباً أو متصدرين لمجالس إدارات جمعيات عامة وغيرهم، تنتقل تلك “الأريحية” الحاتمية من الأعلى إلى الأسفل، وهي ليست من الجيب الخاص للمسؤول بلا عبء المسؤولية، بل بحكم منصبه هي أموال بيت المال المفتوحة أبوابه على مصاريعها لمن هم في مقامه الرفيع، يغرف منها كما يشاء، طالما لا يوجد قانون أو ضمير يسأل من “أين لك هذا؟”.
المرض لم يعد محصورا بحاشية المسؤول الكبير مثلاً الذي يشتري السلطة ويثبت أقدامه وأحلامه بها عبر سياسة “أطعم الفم تستحِ العين”، ففيروس “تحميل الجمايل” انتقل لآخرين من كبار الصف الثاني في سلم المسؤوليات السياسية والإدارية، وشرعوا بدورهم في خلق فرق من حواشي وبطانات تدور في فلكهم، مهمتهم الكبرى “ضرب الطار بالمقلوب”، فهم أبواق دعائية للوزير المسؤول، وهم يدافعون عن جنابه بالحق وبالباطل، ولو كان ذلك الدفاع الأعمى على حساب المبادئ وقيم العدالة، وتظل، كما قلت، حواشي النفاق والرياء في الدولة تتوسع وتكبر حتى تزول تماماً أبسط معاني القيم بعد أن تلوثت بفيروس البطانة.
أعيد كتابة فقرة من مقال سابق عن مسرحية توراندوت أو مؤتمر غاسلي العقول لبريخت “… كامو يتحاور في مقهى شاي الحكماء قائلاً: لن أصوغ اليوم شيئاً. أمس بعت لأحد تجار الأوتار رأياً عن الموسيقى الحديثة. موسي: معها أو ضدها؟ كامو: ضدها. إني لا أبيع آراء كيفما اتفق… تلك الآراء لا تصلح لأي كان. أبيع آراء حسب الطلب…”.
أتمنى على الجالسين في مقهى الحكماء الكويتي أن يخجلوا قليلاً من تصريحاتهم الأخيرة، ويكفوا عن تسويق الآراء الرخيصة، ويعتذروا عن فكرهم المعيب… فأوضاعنا لم تعد تتحمل كل هذا الكم من صيغ الفساد.