في انتخابات لبنان البلدية الأخيرة، خفت صوت التيارات السياسية قليلاً، وصدح عالياً كبديل صوت الاصطفاف والنفوذ العائلي، وبرر المصطفون – أو قل المستفيدين – من هذا الاصطفاف العائلي نبراتهم هرباً من الأحزاب والتقسيم والمحاصصة التي قسمت البلد، لكنهم هربوا من جحيم لآخر، ومن الاسم إلى المسمى نفسه.
لِمَ يلجأ الناس إلى الاصطفاف العائلي في الانتخابات؟ ليس فقط في الانتخابات، بل في المدارس، والزواج، والوظيفة، والسكن، حتى في التجارة. لماذا يلجأ الناس لمن يتشابه معهم في الاسم الأخير أو اللون أو العرق أو غيره؟
هذه الظاهرة لا تقتصر على دولنا النامية، بل هي ظاهرة عالمية أطلق عليها علماء النفس اسم «الأنانية الضمنية».
هذه الأنانية التي ننتقدها بصور عدة، نطلق عليها أحياناً عنصرية أو فئوية أو سمها ما شئت. عبارة عن توجهات يصدرها لك العقل الباطن، ومؤشرات تصدر أحكاماً على الآخرين من عقل اللاوعي، كما أوضحت ذلك الدكتورة النفسية ماريا كونيكوفا في مقالة لها في صحيفة النيويورك الأميركية، تتناول هذه الظاهرة والدراسات العلمية في شأنها. وبينت ماريا أن هناك أبحاثاً أجرتها جامعة هارفارد أكدت أن من لا يملكون أسماء أخيرة «رنانة» يصابون بتوترات عصبية معينة، أو شعور نفسي بالنقص يؤثر أحياناً في حياتهم. وجاءت الدراسات لتثبت أن الاسم الأخير المشترك يشعرنا بالقرب من الآخر بطريقة تجعلنا نميل إليه لا شعورياً أو إرادياً.
نحن بين صراع الوعي واللاوعي، وفي شقوة الرضا الذاتي على حساب الآخرين. هذه الحال النفسية – الطبيعية – ليست رشيدة، وزيادتها على حدها تعتبر مرضاً يبدأ من الفرد وينتشر ليخلق بدوره ظاهرة في المجتمع. في الواقع كلما قل الوعي وانخفض مستوى التعليم والتثقيف، زاد من غلبة عقل اللاوعي على عقل الوعي، وهذا أيضاً لا يعني أن أنانية «عقل اللاوعي» لا يُبتلى به شخص متعلم! أو ذو شهادات عالية. فقد أثبت الواقع أن التعليم العالي أو الشهادات تعين على فهم هذه المخاطر، لكنها ليست بالضرورة مانعاً من انتشاء الإنسان بأنانية عقله الباطن، وتفعيل ميلانه – أوعنصريته – إلى شبيهه في اللون، أو العرق، أو أي مجال إنثربولوجي يجد فيه متسعاً لذلك.
إن الحال الأكثر تضخماً لهذا المرض، أن تتبنى مجتمعات عربية فيها نسبة كبيرة من المتعلمين أو الممتلئين مالياً، كمجتمع لبنان أو مجتمعات في الخليج، مثل هذه الظواهر، والخطر الأكبر أن تتبناها وتغرسها الحكومات كسياسة عامة للدولة.
المواطن العربي يعيش حالاً من التمييز في كل شؤون الحياة، بسبب اسمه الأخير. اسمك الأخير لا يعني شيئاً بحروفه، بل بما يرسله للآخرين من مؤشرات وأحكام. وهذا للأسف ذنب لم تفعله، لكن المجتمع هو الفاعل.