كانت اللحظة الأصعب في حياتي، ولم أعرف كيف توقفت كل الحياة فجأة.. ربما لفجاعة الموقف، وايقاعه اللامعقول في الدقائق الأخيرة. كنت في الطريق الى المطار لاستقباله، فتلقيت اتصالا من زوجتي تبلغني ان الطائرة قد تأخرت، وأنهم عائدون الى البيت.. ثم أتاني اتصال آخر من نسيبي أحمد، يبلغني فيه ان والده قد تعب قليلا، وقد يضطر للذهاب الى المستشفى، ثم اتصال ثالث من موظف المطار وقد قال لي كلاما غير مفهوم اطلاقا.. اتصلت على نسيبي أنور، فسألته شصاير؟ فطلب مني الهدوء، والعودة جميعاً الى بيت «البدع»، خصوصاً ان زوجتي كانت على وشك الولادة.. انتابني الشك الكبير، ثم أقدمت على أسوأ قرارات حياتي: كبست على زر البحث في تويتر على اسم جاسم الخرافي، وإذ بأحد المغردين يعلن خبر الوفاة مع صورة اسعاف الطائرة.. لقد توقف كل شيء، تجمد كل شيء، كل شعور، كل شيء جميل، وقد بدا الأكسجين مستحيلا.. انهالت عليّ الاتصالات، فأدركت ان الاشاعة قد ضربت انحاء البلد: هل هي اشاعة؟ ثم جاءني الاتصال من أنور، وكان الخبر اليقين: لقد رحل! أردت البكاء، فلم استطع، حاولت، ففشلت.. وسرعان ما لفني شعور خِنجري دامٍ ضربني في أعماقي: لم أرتوِ منك يا ابوي جاسم.. هكذا شعرت، والله لم أرتوِ منك، نعم، هكذا شعرت، ولم أزل.. وسأظل! انها غصة، رجة، ذبحة، وشيء أشبه بالحقد على أولئك الذين ظلموه، واتهموه زوراً بما لم يفعل.. استمررت مذهولاً، حتى رأيته أمامي يأتي في سيارة الاسعاف من المطار، تسمرت بمكاني، ورحت أحدق به طويلاً، وقد رأيته مرتاحاً على فراش الموت: جذبت نفساً عميقاً، وعرفت حينئذ كم أحبك يا أبوي جاسم، وأيقنت انك نعمة قد زالت من حياتي فجأة، ولم أرتوِ منها.. لكني ما استطعت البكاء.. استمررت مذهولاً، الى اليوم التالي، الى التشييع المهيب، الى الدفان.. فرأيت كفنه يُرفع وسط الآلاف من محبيه، انهمرت دموعي فجأة.. بكيت، بكيت كثيراً، بكيت بشدة، بحرقة، والحسرة قد طبعت بداخلي الى الأبد: لم أرتو منك يا حبيبي، لم أرتو.. ووجدت نفسي وسط ذلك الحشد المهيب أكتب مقالاً بما أملك من حواس، ذلك المقال الذي طبعته خمس طبعات، علقته في بيتي، ومكتبي، وديوانيتي، وكل مكان أحب أن أجلس فيه.. وعهدت على نفسي أن أنشره في كل ذكرى وفاة تحل علينا يا أبوي جاسم مهما حييت.. وإليكم نص ذلك المقال الذي نشر بـ القبس في تاريخ 24 ـــ 5 ـــ 2015:
«من طول الغيبات..» تلك الجملة الحبيبة كنت أسمعها دائماً عندما أغيب يومين أو ثلاثة عن زيارته في بيته.. كان يقولها لي عمي جاسم الخرافي على ذلك النحو المبتور من دون أن يكملها وعلى وجهه ابتسامة دافئة، كمن يعاتبني على غيابي، وان كان الغياب قصيراً.. كنت أجري إليه بلهفة «الابن» في خضم معاركه السياسية الكبرى خوفاً عليه من «الأذى» أو «الضيقة»، فأراه جبلاً من التفاؤل والصلابة والصدق.. أراه جبلاً قوياً محباً لوطنه، وعلى وجهه ذات الابتسامة الجميلة التي طالما رأيناها بالجرائد والإعلام في أحلك الظروف وأمرّها.. ودون أن يقولها لي، كنت أرى في عينيه أن ما ظننته شأنا خطيرا لا يعد سوى «رشات رذاذ» أمام مشواره السياسي الحافل، من فينا سينسى أزمة الحكم؟ إذاً ما دامت تلك الامور التي اقلقتني لا تعد سوى «رشات رذاذ»، لماذا كان يعطي مفتعليها تقديرا عظيما، فيكون أول الحاضرين في أعراسهم؟ لماذا كان أول الحاضرين عزياتهم؟ أول الزائرين في غرف مستشفياتهم؟ انه جاسم الخرافي الانسان، الذي يحترم خصومه ويقدرهم بأخلاقه.. المخلص لوطنه، الوفي لأصدقائه، والعاشق لأبنائه وأحفاده وأهله جميعا، والحريص على أدق تفاصيلهم.. لن أنسى أبدا «سوالفه» اليومية مع ابني غازي ــ ذي السنة وثمانية أشهر ــ على سفرة العشاء عندما يحادثه بشغف واهتمام وتركيز كبير، وكأنما عُمر غازي بالخمسين.. ولن أنسى، مهما طالت الحياة، اتصاله الاخير معي قبل وفاته بساعات قليلة، وهو يشرح لي ما اشتراه من ملابس اختارها بنفسه لابني غازي ومولودتي الجديدة سبيكة من تركيا.. ذلك الحب العظيم الذي زرعته في دمي يا أبوي جاسم، لا أجد في نفسي من بعده إلا غصة دامية تذبحني على وداعك الأخير.. نم قرير العين يا حكيم الكويت وحبيبها، وألف رحمة على روحك الطاهرة.. فقد احببتك أباً وصديقاً وحبيباً ورمزاً للوطن، ولا املك في مصابنا الجلل الا ان استذكر جملتك الحبيبة، فأكملها وأقول: «من طول الغيبات يا أبوي جاسم.. نلقاه بالجنة بإذن الله تعالى».
آخر مقالات الكاتب:
- كيف باعوا «شبابنا بالسجون».. برخص التراب؟!
- عبد الرحمن السميط.. المسلم الحقيقي!
- أبوي.. جاسم الخرافي
- عبيد الوسمي.. الذي احترمته أكثر!
- مَنْ «صَنَعَ».. عبدالحميد دشتي؟!
- لماذا اجتاح «الإلحاد».. الكويت؟!
- مسلم البراك..«يبي يسجني؟!»
- الشيخ سعد العبدالله.. لم يمت!
- الإلحاد.. وناصر القصبي!
- لماذا سنقيم «فرانچايز اكسبو».. في دبي؟!