في مثل هذا الأسبوع (١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨)، قامت دولة إسرائيل على أنقاض عروبة فلسطين وحلمها بالاستقلال. انتهت تلك الحرب بتهجير أغلبية الفلسطينيين (ما يقارب ٩٠٠ ألف من أصل مليون وثلث مليون مواطن) من المناطق التي قامت عليها إسرائيل، وسط سلسلة مجازر تجاوزت ٢٣ مجزرة موثقة. وعندما قامت دولة إسرائيل أعلنت قوانين سمّتها قوانين أملاك الغائب التي نقلت بموجبها ملكية أراضي العرب (لم يملك اليهود في فلسطين عند قيام دولتهم إلا ٦ في المئة من الأرض) إلى الدولة اليهودية. هكذا نقلت أملاك الأوقاف الإسلامية وأملاك التجار وأصحاب الأراضي وأملاك القرى والمدن والبلديات وملكية المنازل الخاصة والمناطق التجارية والصناعية للملكية الإسرائيلية في فترة قياسية، وقامت إسرائيل بعد ذلك بجرف ومسح وتدمير أكثر من ٤٠٠ قرية فلسطينية تم تهجير سكانها، بينما انتقل مئات الآلاف من اليهود للسكن في المنازل الخاصة العربية نفسها التي تم تهجير أهلها في مدن طبريا ويافا وحيفا واللد والرملة وصفد والقدس الغربية وغيرها. منذ ذلك الوقت وحلم العودة قائم بين الأجيال الفلسطينية، ومع الوقت تحول حلم العودة إلى خليط بين حلم لإحقاق العدالة وحلم يوازيه بإيقاف الصهيونية بصفتها الحاضن الأهم لكل ما وقع.
وعند قيام إسرائيل عام ١٩٤٨، لم تنجح في أخذ جزأين أصغر حجماً من فلسطين سمي الأول في ما بعد بالضفة الغربية على حدود ٢١ في المئة من فلسطين ويضم القدس الشرقية، وجزء آخر عرف باسم قطاع غزة لم تتجاوز مساحته ١،٥ في المئة من فلسطين. الضفة والقدس وقعتا تحت الحكم الأردني في نهاية الحرب، بينما وقعت غزة تحت الحكم المصري، لكن حرب ١٩٦٧ انتهت بسقوط هذه المناطق تحت الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكتفِ إسرائيل بالطرد والتطهير العرقي في عام ١٩٤٨، فقد استوردت من خارج فلسطين مئات الآلاف من اليهود ليحلوا مكان الشعب الفلسطيني. سياسة الهجرة كانت بدأت قبل قيام الدولة وتحت سيطرة الاستعمار البريطاني وأعينه، فعند قيام إسرائيل وصل عدد اليهود في فلسطين (معظمهم من المهاجرين وأبنائهم) إلى ٦٠٠ ألف، بينما في السنوات الأولى بعد النكبة جاء ضعف هذا العدد من المهاجرين القادمين من الدول العربية وأوروبا. وقد استمرت الهجرات اليهودية إلى فلسطين حتى يومنا هذا، بل كانت آخر موجه كبرى للمهاجرين اليهود هي هجرة اليهود الروس في تسعينات القرن العشرين والذين تحولوا إلى كتلة كبرى في إسرائيل.
على مر الزمن، قاتل العرب والفلسطينيون الصهيونية، وسقط في معارك متفرقة وحروب مقاومة وحروب متعددة عشرات الآلاف من العرب والفلسطينيين. حرب ١٩٤٨ (النكبة) التي هزم فيها العرب، كانت أولى الحروب وانتهت باحتلال معظم فلسطين وتهجير الشعب الفلسطيني، ثم حرب ١٩٥٦ وهي الحرب التي شنتها إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا لمجرد أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تجرأ على تأميم قناة السويس وتحويلها ملكية مصرية. تلك الحرب أوضحت للرأي العام العربي طبيعة وظيفة إسرائيل في الإقليم في مواجهة النهوض العربي أو المحاولات العربية للتقدم ومواجهة الاستعمار.
ومنذ عام ١٩٤٨ إلى يومنا هذا، تلعب إسرائيل في الإقليم العربي دوراً إستراتيجياً في دعم وتقنين والتحكم بالسيطرة الخارجية الغربية على الإقليم، سواء كانت تلك السيطرة في البداية فرنسية بريطانية أو في ما بعد أميركية، وهي في الوقت ذاته تعمل لإبقاء تفوقها الشامل على العرب في المجالات كافة، العلمية والبحثية والعسكرية والتكنولوجية والديموغرافية، وهذا يتطلب بقاء حالة شديدة من حالات الاعتماد العربي على الغرب وسط ضعف واضح في النخب السياسية وقدرتها على التمثيل الديموقراطي. مشكلة إسرائيل ليست مشكلة مع الفلسطينيين فحسب، فعند التعمق نكتشف أنها بامتياز مشكلة مع العرب، وكذلك مع المسلمين، وستبقى كذلك في المدى الإستراتيجي، وما الفلسطينيون إلا مجموعة سكانية عربية كانت في طريق الصهيونية التي لها أهداف في سورية والأردن ولبنان والخليج. الهدف ليس احتلال هذه المناطق، بل الأهم دعم ما يساهم في جعل مناطق العرب ضعيفة وركيكة وتحت السيطرة الغربية في مجال السلاح والتكنولوجيا والعلم والمعرفة، بل والسعي إلى ضمان ضعف الديموقراطية والحريات في هذه المناطق المحيطة بهدف إبقاء الشعوب العربية ضعيفة وبلا تمثيل وحريات بل وبلا ذاكرة وخبرة وتنمية جادة. فالفرضية الإسرائيلية الأهم أن الديموقراطية والحريات ستأتي إلى سدة الحكم في الدول العربية بقوى معادية للصهيونية وملتزمة بالحلم العربي.
إن الانحياز الأميركي لقضايا عديدة متناقضة مع الحد الأدنى من الطموحات العربية في الحرية والتعبير والتحرر، مصدره إسرائيلي، كما أن حالة العداء العربية الأميركية مصدرها الأساسي والأخطر مرتبط بالمسألة الإسرائيلية. يكفي أن نفهم أن بعض القرارات حول حرب العراق في ٢٠٠٣، وخاصة حل الجيش العراقي، حملت معها نفساً وتأثيراً إسرائيلياً، كما أن مبررات المعادين للولايات المتحدة، كتنظيم «القاعدة» على سبيل المثال في إقليمنا، بخاصة في مجال العنف، تستغل بالأساس السياسة الأميركية تجاه إسرائيل.
حروب العرب مع إسرائيل لم تتوقف منذ قيامها، وانتفاضات الفلسطينيين ومقاومتهم لم تنقطع، يكفي أن نستذكر معركة الكرامة التي قامت بها حركة «فتح» عام ١٩٦٨ أو حرب ١٩٧٣ العربية الإسرائيلية أو اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان ١٩٧٨، أو حرب ١٩٨٢ عندما اجتاحت إسرائيل بيروت، أو حرب ٢٠٠٦ بين «حزب الله» وإسرائيل، أو الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة ١٩٧٨ والثانية عام 2000 والانتفاضة الراهنة التي يسجل أنها انتفاضة ثالثة.
بعد ٦٨ عاماً على النكبة التي وقعت عام ١٩٤٨ لا زالت القضية الفلسطينية عنصراً محركاً ومؤثراً للأسباب التالية: فعلى الأرض الفلسطينية يوجد اليوم من الفلسطينيين أضعاف ما كان موجوداً عام ١٩٤٨، فهناك ٦ ملايين فلسطيني تتوزعهم الجغرافيا الفلسطينية في أراضي الضفة الغربية (حيث الاستيطان اليهودي الغزير) وفي قطاع غزة المحاصر من كل الجهات ومناطق فلسطين ١٩٤٨، حيث حملة الهوية الإسرائيلية من الفلسطينيين. في المقابل، يوجد ستة ملايين يهودي على الأرض ذاتها. في الوقت ذاته تقع في أراضي الضفة الغربية وبين عرب ١٩٤٨ ووسط أهل غزة حالة مقاومة تتعدد أساليبها وطرقها، وهذه الحالة تمزج بين المقاومة المسلحة والمدنية والثقافية.
القضية الفلسطينية ما زالت في عمق الوجدان العربي، ففي ثورات الربيع العربي عام ٢٠١١ وخاصة في مصر، كانت للقضية الفلسطينية مكانة خاصة في الميادين، إذ لا يمكن أن تكون عربياً أو مصرياً أو سورياً ديموقراطياً وساعياً إلى الحرية من دون أن يكون لك موقف من الصهيونية بصفتها شكلاً من أشكال الاستبداد والهيمنة وانتهاك الحقوق العربية. لهذا رفعت شعارات وصور أكدت مدى تأثر الثوريين العرب بمكانة القضية الفلسطينية. لكن من جهة أخرى، يؤدي مشهد التفكك العربي الراهن إلى دور أكبر لإسرائيل، وهذا يعني عملياً أن المشهد العربي في مرحلة قادمة لن يخرج من أزمته بلا مواجهة صريحة مع الصهيونية بصفتها متناقضة مع النهوض العربي المستقل ومتناقضة مع كل اتجاه عربي تحرري وديموقراطي حر.
بعد ٦٨ عاماً على النكبة، لا زال التناقض بين الحركة الصهيونية من جهة وبين تحرر الإقليم من الهيمنة والاستبداد عمليتين متلازمتين ومتداخلتين. ولا زالت المواجهة قائمة بين الصهيونية بعنصريتها تجاه العرب وبين حقوق الإنسان وحقوق الحياة في الإقليم العربي. الصهيونية بما تعني من سعي لجلب مزيد من اليهود لاحتلال مناطق عربية في الضفة الغربية والقدس ومحيطها عملية مستمرة تتضمن طرد مزيد من العرب بوسائط ووسائل مختلفة، كما تتطلب لنجاحها سياسة تهويد لا تزال مستمرة وسياسة تفتيت للإقليم العربي المحيط حيث كتل عربية كبرى متأثرة بما وقع في فلسطين، بل يتطلب الوضع وفق الرؤى الصهيونية إبقاء العرب في حالة ضعف واعتماد وتفكك لأطول فترة ممكنة. بل يبدو أن الهدف الأهم للصهيونية هو إبقاء الأغلبيات العربية الشعبية مستنزفة في حروب في ظل دول عربية منهارة. لقد قامت إسرائيل على روح أقلوية تغلبت على أغلبية عربية مكونة من مسلمين ومسيحيين وأقليات أخرى عربية، وأقصتها بالكامل عن أرضها وحقوقها التاريخية، وهي بالتالي تنقل نموذجها للإقليم العربي بحيث تسيطر الأقلية السياسية على الأغلبية وتقصيها ثم تبقيها تحت حراسة حالة من حالات الاستبداد والتدمير الممنهج. إسرائيل تخشى التعبير والتمثيل الديموقراطي للعرب أقلية وأغلبية، شيعة وسنّة، مسلمين ومسيحيين، لأنه عندما يقع سيضعفها ويؤثر على كل معادلاتها العنصرية. لإسرائيل كل المصلحة في نظام عربي مرهون للقوى الدولية ومتحارب بعضه مع بعض ومع الإقليم المحيط. لها كل المصلحة في حرب سورية وتآكل مصر وانهيار العراق وحصار الشعوب واستمرارها في حضن الاستبداد.