ما وقع عام 2011 أدخل الحالة العربية في مناخ جديد لن تخرج منه في أي مدى قريب، بل ويتضح ان الامر سيتجاوز العقد، وعند مراقبة الحالة العربية قبل 2011 سنرى أن وضعا ثوريا عاصفا نشأ في الإقليم. كانت المقدمات لهذا الوضع كثيرة، وكان أوضحها في مصر بالتحديد، وفي بعض الحالات مثلت حالة السكون التي سادت بعض الحالات العربية كسوريا مثلا أحد علامات ما هو قادم، فالصمت، في ظل أوضاع مختلة، مقدمة للمفاجآت. أهم ما جاء به الربيع العربي بالإضافة لتغير رؤساء وإعلاء مطالب الشارع العربي هو عودة للعمل السياسي بين المجتمعات والشعوب العربية من أوسع أبوابه.
لكن ردة فعل النظام العربي الذي فاجأته الأحداث هو الآخر شكل جزءا من المنحى الذي سارت عليه الأمور، فلقد وضع الوضع العربي الكثير من الموانع والجدران والقوانين وشغل آلة القمع بصورة غير مسبوقة. فجأة أسقطت «الليبرالية الشكلية» التي تبنتها الكثير من الأنظمة العربية «شعار دع الناس تقول ما تريد لكننا سنعمل ما نريد» وأصبح دخول الشبان والشابات إلى السجن بسبب التعبير عن آرائهم في دول كثيرة من طبائع الأمور. اختلط المشهد وتعقد، لكنه بهذا التعقيد يمهد لمصاعب قادمة.
إن قراءة متأنية للأوضاع العربية الراهنة في ظل الإجراءات الرسمية المتشددة توكد أن الإجراءات ساهمت في استمرار العنف والانهيار وتؤدي لتشكيل الحالة الثورية العربية القادمة. الوضع العربي الشعبي والاقتصادي والإنساني بل والتعليمي والمؤسسي العربي لا يحتاج تعاملا عنيفا من قبل الدول والأنظمة بقدر ما يتطلب خططا تنموية واستنهاضا لقيم الشفافية والمحاسبة والحريات والعدالة. والواضح في المعادلة الجديدة منذ ثورات 2011 ان الإجراءات القمعية المبالغ بها سوف تدفع نحو الراديكالية والتطرف والتثوير. فمن سجنوا في العالم العربي في السنوات القليلة الماضية يزدادون تطرفا، لكن الذين يخرجون منهم من السجون نجدهم أكثر غضبا وراديكالية. إن مؤسس الدولة الإسلامية الزرقاوي بالأساس تخرج من سجن في الاردن. مدرسة العنف تتشكل اساسا في السجون وفي ظروف التشدد الرسمي كما يقع في سيناء اليوم وكما حصل في سوريا والعراق واليمن وغيرهما.
إن عودة الربيع العربي بصورة أكثر شراسة أصبح أمرا حتميا خاصة في ظل غياب بوادر للإصلاح العربي السياسي والثقافي والاجتماعي كما والاقتصادي المرتبط بالعدالة. هذه الحالة تشبه موجات البحر. فهي تأتي صغيرة على مدى فترات متتالية ثم تتحول لموجة كبيرة تتجاوز الموانع والحواجز والإجراءات والجدران. لكن الموجة القادمة في الإقليم ستكون أكبر من الموانع التي وضعها النظام العربي، وهذا سيكون أحد أسباب راديكاليتها وثوريتها وجذريتها. الربيع العربي الذي وقع في 2011 شكل موجة عاتية، أما الربيع القادم بعد زمن فستكون موجته أعلى بكثير من الربيع الاول وذلك بسبب حالة الغضب المتراكم وبسبب طبيعة الموانع الجديدة الأمنية والعسكرية التي شيدها النظام العربي. وهذا يعني ان الموجة القادمة، التي لن تضرب كل مكان وستختار أماكن مختلفة لتوجيه حراكها، ستكون خليطا من الثورة والعنف وستمتلك قوة تدميرية.
كلما تعمقنا في محاولة فهم المشهد العربي سنجد بأن الشعوب العربية لم تتخل عن حلم التحرر الديمقراطي والمشاركة والتمثيل والمساءلة والحريات والعدالة الاجتماعية. مطالب 2011 مازلت قائمة، والقوى التي لم تنجح في تحقيق احلامها في 2011 لم تستسلم بل نجدها تزداد تمسكا بحلمها ومازال نبضها قويا. ويخدم قضية التغير في المنطقة العربية عجز النظام العربي الواضح حتى اللحظة في التعامل مع الأسباب والأوضاع التي أدت للثورات والربيع العربي. فالظروف التي أدت لربيع 2011 لم تتغير، بينما ازداد الوضع سوءا في طول البلاد العربية وعرضها. البعض يسأل متى الموجة القادمة؟ هذه مسألة لن يستطيع احد ان يتنبأ بها، لكن من يتابع ما يقع في قاع المجتمعات العربية يعي ان شيئا يختمر في هذا القاع، وما داعش والقاعدة والعنف والحراكات السياسية وكثرة أعداد الشبان في السجون وتضاعف عدد المنفيين والملاحقين وبروز أفكار جديدة نقدية للنظام العربي الا مقدمة للمشهد القادم.