أبدعت سامية عيسى في روايتها الصادرة في بيروت هذا الخريف (خلسة في كوبنهاغن) في وصف آلام الشتات الفلسطيني ومتاهاته وتعقيداته. إذ تفرض الرواية المؤثرة على القارئ تساؤلات عميقة حول الوضع الشتاتي الذي:
«مزق العائلات والناس ومزق بينهم وبين أنفسهم، فصاروا يتخبطون ويتساقطون أحياء وأمواتاً في برد المنافي على غير هدى. حاولوا أن يرتقوا التمزق بنشاطات سياسية وأخرى اجتماعية وفولكلورية، لكن الشتات ظل يلاحقهم في أرض الشتات نفسها كلما حدث شيء في غزة ولبنان أو حتى في شوارع كوبنهاغن أو لبنان وسورية».
تناولت سامية عيسى في روايتها فلسطينيي لبنان الذين تعرضوا في ثمانينات القرن العشرين لمجازر دموية وتصفيات فردية وجماعية. وبطبيعة الحال لم تكن الدول العربية الملاذ الطبيعي للضحايا كما كان الأمر في خمسينات القرن الماضي بعد نكبة ١٩٤٨. فحروب المخيمات بعد الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام ١٩٨٢، وبعد مجازر صبرا وشاتيلا، دمرت الأمن الجماعي والفردي للفلسطينيين في لبنان. هذه المرة تحركت عائلات وأفراد بالآلاف على شكل طوابير مسحوقة منهكة عبر طرق التهريب البحرية نحو أوروبا والدول الاسكندنافية باحثين عن ملاذ وحياة جديدة في ظل سعي لم يتوقف للحفاظ على هوية فلسطينية تتقاذفها الأمواج.
لقد أخذت عيسى القارئ في رحلة قاسية ومتعرجة مع عائلة فلسطينية في مخيم للاجئين في لبنان. فقد برز من صفوف هذه العائلة مقاتلون أشداء قاتلوا إسرائيل في جنوب لبنان وقاموا بعمليات في فلسطين. وبينما سعوا إلى عودة الأرض والحقوق سقطوا الواحد تلو الآخر في القتال. القصة تجسد سيرة جدة فقدت أبناءها (فاطمة) وزوجة فقدت زوجها وتحملت وحدها وزر العائلة (صديقة) لتنتهي بالأحياء منهم في مدينة كوبنهاغن في الدنمارك: في بلاد لا يعرفونها ولا يعرفون لغتها.
لقد لاحق إرث المعاناة العائلات الهاربة من المخيمات إلى كل مكان، إذ فقد عمر ذاكرته، بينما انتقل جلال من دولة إلى أخرى عبر عشر دول للوصول إلى مكان آمن، وآخر فقد عقله بالكامل بعد تصفية جميع أفراد عائلته في مجزرة صبرا وشاتيلا. ومع وصول اللاجئين إلى أوسلو في النروج، ثم إلى كوبنهاغن في الدنمارك إلى مراكز اللجوء، تقرر الدولة بعد سنوات من الانتظار في مراكز معزولة، إن كانت ستمنح اللاجئ إليها الحق في حياة جديدة أم سيعطى رقماً لا يسمح له بالدخول.
اختلطت في الرواية القصص السياسية بتلك الشخصية لأسر انتحبت في غربة فرضت عليها، ففي تلك الغربة الجديدة شاب جرفته المخدارات وانتهى أمره بجريمة قتل مواطن من الدنمارك، وفي الدفاع عنه يتبين كيف أدى نشوؤه وسط أنهار الدماء التي عمت مخيمات لبنان إلى فقدان كل اتزان عند التعرض لمعاملة مذلة من جانب صديقه الدنماركي.
وللمرأة في «خلسة في كوبنهاغن» مكانة وذلك بصفتها أم شهيد أو زوجة مضطرة لزواج لا تريده بسبب ظروف القهر، أو عندما تكون زوجة شهيد تتحمل وحدها عبء الأسرة في ظل أسوأ الأوضاع. المرأة تضطهد في المخيم وخارجه وفي الشتات وفي الطريق إليه لمجرد أنها امرأة في مجتمع ذكوري، إذ تصبح الضحية الأولى في الحروب وفي كل الظروف الاستثنائية. فسلمى «لم تبع جسدها فقط، بل روحها أيضاً، مقابل أن تضمن حياة أولادها… قايضت حياتها بحياتهم، واعتبرت الأمر نوعاً من الشهادة لا تقل قدراً عن شهادة زوجها».
لقد شتتت النكبة الجميع «في كل اتجاه من الشمال إلى الجنوب وشرقاً فغرباً واتسعت المتاهة لتبتلع الجميع». إنها «الهاوية التي يتجه إليها العالم بأسره». وفي وضع كهذا: «أن تكون فلسطينياً يعني أن تحمل كلّ خطايا العالم الذي أخطأ بحقك ولم تملك فرصة أن يكون لديك الخيار لتسامح وتغفر».
لكن التفاؤل بالمستقبل وبجيل الشتات الجديد من الفلسطينيين حاضر في الواقع كما هو حاضر في الرواية. فحسام ابن العائلة المنكوبة وابن الشهيد أحمد كبر بسرعة عندما وصل إلى كوبنهاغن بسفينة هرَّبته (بمساعدة صديقه اللبناني) خوفاً من قتله في حرب لبنان وحرب المخيمات. تعلم حسام ابن الـ١٦ عاماً كيف يصلح المراحيض ويكون سمكرياً ماهراً في مدينة كوبنهاغن، كما نجح في لم شمل عائلته في تلك البقعة البعيدة (تهريب أخويه الأصغرين في سفينة من لبنان بمساعدة شرطية دنماركية تعاطفت مع الفلسطينيين، ثم انضمام والدته وجدته إليهما في الدنمارك).
حسام الناشئ في كوبنهاغن أصبح في طليعة جيل من الشتاتيين الجدد، إنهم الجيل الثالث بعد النكبة. حسام أحب المكان الجديد وتفاعل معه، وحقق مع الوقت قصة نجاح كبيرة، بل قرر العيش خارج الغيتو الذي تجمع فيه الكثير من الآتين الجدد وذلك لكسر سلسلة العزلة تجاه مواطني كوبنهاغن، ثم بدأ حسام نشاطاً اجتماعياً وسياسياً ومواقع تواصل باحثاً عن غيره من الفلسطينيين المنكوبين لتشكيل حالة نوعية وجديدة في الشتات.
وآمن حسام من شتاته بمفاهيم جديدة للعودة إلى فلسطين: فالعودة لن تكون على طريقة والده الذي سقط شهيداً في معارك ضد القوات الإسرائيلية الزاحفة على مواقع القوات الفلسطينية في قلعة الشقيف في حرب ١٩٨٢، إذ نجد حسام يعلن في أحد حواراته المؤثرة:
«ما أزال أريد العودة، لكنها ما عادت العودة إلى الأرض هي ما يشغلني الآن، بل العودة إلى الذات قبل أن نضيع تماماً. الآن أفكر بالناس وكيف أساعدهم كي يؤمنوا بأنفسهم حتى يتمكنوا من تصديق أحلامهم. حين نؤمن بمن نكون ونصدق أحلامنا ربما نحقق بعضا منها».
وكان من حظ حسام أن وقعت يده على مذكرات والده الشهيد، والتي قوّم فيها وانتقد التجربة الفلسطينية السابقة للكفاح الفلسطيني فألهمت روحه الطرية: «سيبدأ الكثيرون ممن مزقهم الشتات – جيلاً وراء جيل – في السؤال عن المجازفات الكبيرة التي أقدم عليها (من سبقهم من المناضلين)، من غير تفكير بالخطوة التالية. من غير أن يحسبوا لما هو أبعد من العودة نفسها وما هو أقرب لأن تكون إنساناً».
ويجد حسام بعد بحث طويل أنه يجب أن يجوب العالم ويقدم نظرة جديدة للانتماء والهوية والحقوق تختلف عما كان يفهمه جيل آبائه وأجداده، بل حتى جيل أعدائه. فالعالم كله فلسطين، والأرض متداخلة كما الجغرافيا، وما سعي الصهيونية للاختباء وراء جدار من الخوف والإسمنت والسياج إلا تشديد على هزيمة منطقها وبداية سقوطه. فكل «الأوطان تشكلت من فكرة عن الوطن، وحين تصبح الأرض فكرة نسكنها في متخلينا، تصبح عصية على الامتلاك. ستصبح حرة وتحررنا معها وفيها».
ثم يكمل: «نعم، أنا أحاول رتق ما تمزق من روح العالم كي أجد موطئ قدم لروحي وما تمزق فيها. أتعالى على الجرح الذي ما زال ينزف في داخلي وداخل عائلتي وناسي… كيف أشفى إن لم يشفَ هو؟… وكي أشفى أحتاج لأن أحتضن نفسي وأقبل جرحي وأضمد روحي قبل أن تفسدني شهوة الانتقام».
وقد سعى حسام إلى اكتشاف الآخر (العدو) وصوره النمطية وغير النمطية، وذلك عبر بحثه عن الحرية والعدالة، لكنه في بحثه عن العدالة لم يتمنَّ حسام لمجتمع أعدائه المصير نفسه الذي عانى منه. لهذا، لم يمانع حسام في حوارات مع يهود وصهاينة في محاولة منه لتوضيح معنى أن الأرض تتسع وأن الأساس هو الإنسان والعدالة.
والشتات وفق الشاب حسام: «ميزة تخلى اليهود عنها واستقروا في أرضنا. هم خسروا الشتات لأنهم لم يفهموا الميزة التي يمنحها الشتات للبشر. الشتات صار جسر عبور قسري إلى الآخر، في أي بقعة كان وعلى أي جماعة وقع، وها نحن تحولنا إلى جسر».
ويكمل الشتاتي الجديد حسام: «كان اليهود في الشتات اليهودي شعب الله المختار. كان بإمكانكم إنقاذ العالم من هذا الهباء. بدل أن تفعلوا سعيتم لإنقاذ أنفسكم وطردتم شعباً ليس من أرضه، بل من حياته وأحلامه البسيطة».
هكذا يستمر في شرح فلسفته للشابة اليهودية الباحثة عن أصول المسألة الفلسطينية: «صرتم مثل كل شعوب الأرض تبحثون عن الاستقرار والأمان. ما لن تعرفوه ولم تعرفوه أن الاستقرار شيء زائف. وهم من ضمن أوهام تجسد تفاهة الحياة وضياع المعنى».
ويختم حسام رؤيته: «من دون العودة لا معنى للغفران. أغفر ما فعلوا بي. أغفر على أن أعود إلى أرض الأسلاف لا أن أظل وسط متاهة ستبتعلنا جميعاً. ستبتلعهم قبلنا لو لم يفهموا ويدركوا إن هذا الخراب سيظل يدور ليسحقهم معنا. على دورة الألم أن تتوقف في مكان ما. في لحظة تعيد للزمن دورته من جديد».