يمكن اعتبار مصادقة مؤتمر حركة النهضة الأخير في تونس على الفصل بين العمل الدعوي وبين العمل السياسي خطوة تاريخية، لولا تناقض تصريحات رئيس الحركة راشد الغنوشي بين الموجهة للغرب وبين لغته المحلية في مؤتمر الحركة. لطالما ظهر الغنوشي بلغة منتقاة في لقاءاته ومقالاته وأطروحاته مع الإعلام الغربي الذي نجح في أن يجعلهم يصفونه بـ “الإسلامي المعتدل”، لكن لغته الأخيرة، قبل أيام، ولا شك اتخذت مسلكا مختلفا جديدا في الخطاب في مقابلته مع “لوموند الفرنسية”، ومن ثم CNN مع كريستيان آمانبور، بإعلانه فصل الحركة للدين عن السياسة، وقد بدا الغنوشي متأثرا بشكل عاطفي في مشاهد مؤتمر الحركة المعروضة. يشهد للغنوشي توظيف ذكائه السياسي في المراحل والمتغيرات، هو الذي عرف عنه تحولاته وتعدد خطاباته، بحسب الأماكن والأحداث والظروف والجمهور، لكن لا شك أن هناك مفارقات شتى تطبع التصريحات الأخيرة للغنوشي، لدرجة تصيب متتبعي تناقض خطاباته حتى الواحدة منها بالدوار.
ويبقى حدث فصل الدين عن السياسة بطبيعته حدثا يتجاوز جغرافية تونس، ليخلف تأثيراته على مستقبل حركات الإسلام السياسي بشكل عام، ولم يكن هذا خبرا وحيدا أثار الرأي العام، بل وربما كان الأكثر إثارة هو انتشار خبر خروج الغنوشي من عباءة “الإخوان”، وقوله في رسالة وجهها لهم إن “الجماعة أخطأت”، إلا أنه نفى الخبر بعد ساعات، على الرغم من أن عديدا من قادة حركة النهضة ومنهم الغنوشي نفسه أكدوا في أكثر من مناسبة أن حركتهم فكت الارتباط الفكري والتنظيمي مع “الإخوان”، ويطرح الأمر مسألة الانفصال الفكري لدى جماعة نشأت على أدبيات تدعو للأممية ومشروع سياسي نقيض لمشروع الدولة الوطنية القطرية، والبعيدة عن المضمون “المدني”، الذي ينادي به الغنوشي وتصادق عليه الحركة، مع تجنبه لمصطلح العلمانية، إذ تتمسك كل الحركات الإسلامية، المتشددة والمعتدلة منها برغم اختلافاتهم، بشمولية الإسلام ودولة الخلافة، وهناك اعتقاد سائد يرى خصوصية الإسلاموية التونسية التي هي بطبيعة الحال في سياق طبيعة المجتمع التونسي التي خرجت منه، لكن هذا لا يجب أن يغفل المشتركات العامة بينها وبين مهد الحركة الإخوانية في مصر. وعلى الرغم من التغييرات المعلنة بقول الغنوشي “جاء وقته”، يعني التغيير، إلا أن الشكوك باعتبار ذلك تقية سياسية ستظل حاضرة حتى حين.
بطبيعة الحال، لا يعاب على أي حركة وحزب القيام بقراءة نقدية شاملة للأفكار للتطوير وللتغيير بحسب متغيرات الحياة، فذلك أمر طبعي في التطور السياسي. ولم يكن الإعلان مفاجئا تماما بعد سلسلة من المتغيرات الداخلية للحركة في تونس طوال الفترة الماضية، هي التي حاولت تبني سياسة محايدة ليس على مستوى الخطاب السياسي والفكري ولكن على مستوى الممارسة السياسية أيضا، فهي قد ابتعدت عن الاختبارات السياسية التي تضعها في وجه الانتقاد السياسي أخيرا، من خلال خطاب توافقي براغماتي، إلا أن ذلك يشترط على المواقف المستحدثة أن تكون نتيجة مراجعات جادة وحقيقية، والأهم استخدام لغة واحدة واضحة تعبر عن هذه الرؤى الجديدة دون مراوغة أو ازدواجية أو تناقض. إعلان الغنوشي يطرح أسئلة حيوية مثل: هل الأمر كذلك أم استهلاك دعائي للاندماج في منظومة الشرعية الدولية؟، هل الأمر استفاقة متأخرة، أم مجرد محاولة تموقع جديدة وتبرئة ذمة من الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تمر بها تونس؟، وأخيرا، هل هذه الخطوة طلاق سياسي أم أيديولوجي مع الإخوان؟، أم يمكننا الآن القول إن عصر الدراويش انتهى وجاء عصر الأنوار؟